تسنى لي مشاهدة اللقاء التلفزيوني الأخير الذي بثته قناة آفاق التابعة لنوري المالكي بتاريخ 30/3/2015 والاستماع لإجاباته عن أسئلة القناة. بعدها قرأت الكثير من المقالات والتعليقات بشأن هذه الحديث ومنها المقال القيم للطبيب الأستاذ جعفر المظفر المنشور في الحوار المتمدن ومن ثم المقال المهم للزميل علي حسين المنشور في جريدة المدى بتاريخ 2/4 الذي فرض عليَّ طرح السؤال المشروع التالي: هل يشهد نوري المالكي بتصريحه هذا صحوة ضميرية حقاً إزاء ما فعله بالعراق وشعبه خلال الفترة الواقعة ابتداءً من تسلّمه رئاسة الوزراء في أيار/مايو 2006 حتى إجباره على الانسحاب من حكومة تصريف الأعمال في 14 أب/أغسطس 2014، أم إن الرجل يمارس السياسات ذاتها من موقعه الراهن؟
جاء اعتراف المالكي على النحو التالي:"هذه الطبقة السياسية، وأنا منهم، ينبغي أن لا يكون لها دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق، لأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً". وحين استفسر الصحفي منه: وهل أنت أيضاً؟ أكد المالكي: "نعم وأنا منهم"، نعم أنا أيضاً!
سأحاول الإجابة عن السؤال الأول بعد أن أجيب عن سؤال آخر أكثر أهمية هو: هل إن ما ارتكبه المالكي والكثير من أعوانه خلال فترة حكمه كان مجرد أخطاءً وفشل سياسي، أم كانت جرائم بشعة دفعت بالعراق إلى ما يعاني منه اليوم من جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي وثقافي بمحافظة نينوى وغيرها، يفترض أن يقدم المسؤول الأول عنها وأعوانه إلى القضاء العراقي والدولي لينالوا الجزاء العادل؟
لقد أجاب الأستاذ جعفر المظفر بدقة وصواب عن هذا السؤال. فالسياسات التي مارسها نوري المالكي على امتداد سنوات حكمه كانت إيغالاً بامتياز في النهج الطائفي السياسي العدواني الشرس الذي بدأ به رئيسه السابق في الحزب إبراهيم الجعفري وواصله بتخطيط وتنظيم مسبق وتنفيذ لا يعرف الرحمة والمساومة ولا يريد مشاركة أحد غيره في حكم البلاد وإقصاء كل من يقف في طريقه ومستعد أن يمشي على جثث ضحاياه لكي يبقى في السلطة. إذ أدى وجوده على رأس السلطة ونهجه الطائفي الجامح إلى المزيد من عملية الاصطفاف والاستقطاب الطائفي المقيت وإلى موت المزيد والمزيد من العراقيات والعراقيين وخسارة المليارات من الدولارات الأمريكية وتفاقم البؤس والفاقة والرثاثة والفساد في الدولة والمجتمع. ينبغي أن ندرك ونعترف بأن نوري المالكي يعتبر المسؤول الأول عما حصل بالعراق منذ العام 2006 حتى الوقت الحاضر باعتباره رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، وأخيراً نائب رئس الجمهورية والمشرف على الحشد الشعبي وبالتنسيق مع القائد السياسي والعسكري الإيراني قاسم سليماني. وهذا التشخيص لا يعفي كل الطائفيين السياسيين الآخرين من الشيعة والسنة لما وصل إليه العراق حالياً.
لقد كنت مواظباً على تعرية سياسات نوري المالكي الطائفية والشوفينية واستبداده الشرس في ممارسة الحكم بمئات المقالات المنشورة وتنبيه المجتمع العراقي إلى المخاطر الجمة المقترنة بنهج نوري المالكي وأتباعه في قيادة حزب الدعوة وقائمة دولة القانون وسياساته المدمرة لنسيج الشعب الوطني وروح المواطنة والتفاعل والتضامن الإيجابي بين أفراد المجتمع العراقي. وقد كتب المئات من الكتاب والإعلاميين المقالات والدراسات لكشف عورة هذه الشخصية المستبدة، وأعني بذلك وعيه الديني والمذهبي المشوه بالطائفية السياسة والشوفينية والحقد والكراهية والاستبداد. يكفي أن نتذكر تصنيفه السيئ والمشبوه للشيعة والسنة بالعراق إلى كونهم "أنصار الحسين وأنصار يزيد بن معاوية" حتى يومنا هذا!!!
كان نوري المالكي قد تنقل بالمجتمع من معركة سياسية إلى أخرى وأنتج المزيد من حالة الاصطفاف والاستقطاب الديني والطائفي والقومي الشوفيني ونشر الكراهية والأحقاد بين الناس بحيث أصبح العيش المشترك بين أتباع الديانات والمذاهب العديدة بالعراق، ومنها بغداد، أشبه بالمستحيل. ويكفي أن نقرأ لائحة الاتهام المهمة التي وجهها القاضي الأستاذ رحيم العگيلي ضد نوري المالكي لنتعرف على حجم الجرائم المرتكبة المتهم نوري المالكي وأعوانه وحجم الكارثة التي حلت بالعراق في العام 2014 على نحو خاص. (اقرأ اللائحة على هذا الموقع http://thejusticenews.com/?p=26747 ).
إن المالكي لم يرتكب أخطاءً فحسب، بل ارتكب، حسب تلك اللائحة ووأكثر من تلك اللائحة وعلى وفق ما أراه، جرائم بشعة ينبغي أن يقدم بموجبها للقضاء العراقي ومحاكمته بصورة عادلة, وبشكل خاص لما حصل بالفلوجة والرماد (محافظة الأنبار) وبتكريت وعموم صلاح الدين، ومن ثم بديالى وأخيراً بالموصل وعموم محافظة نينوى. وما تعرض له الإيزيديون والمسيحيون والشبك والتركمان وعموم أهل الموصل من جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي وثقافي وتدمير لحضارة العراق العظيمة.
حاول المالكي في هذا اللقاء، وهو يتحدث عن فشله وفشل كل الطبقة السياسية فشلاً ذريعاً، أن يعود إلى واجهة الأحداث السياسية ليقدم "النصائح" "وهو الفاشل فشلاً ذريعاً!!" للأمتين العربية الإسلامية ويدعوها لانتهاج السياسات التي مارسها قبل ذاك بالعراق. إن من يتصور حقاً بأن المالكي يعترف ولو بشكل متأخر عما قام به خلال فترة حكمه، فهو مخطئ ومخطئ جداً، فهذا الرجل مشوه فكراً وممارسة ولا يمكن أن يفهم ما جرى بالعراق والعواقب التي ترتبت على نهجه وسياساته الطائفية والشوفينية المقيتة. بل يعتبر ما جرى له لم يكن سوى "مؤامرة قذرة ضده!". وإذا كان يعي إنه كان سياسياً فاشلاً، فما كان عليه إلا أن يتخلى الآن وحالاً عن منصبه كنائب لرئيس الجمهورية وأن يختلي في مكان قصي أو يقدم نفسه إلى القضاء العراقي ويطالب بمحاكمته.
السؤال الذي يدور في بالي، كما شخصت ذلك في صدام حسين، هل إن هذا الرجل المدعو نوري المالكي، مصاب بجنون العظمة والنرجسية في آن واحد، وكلاهما، كما نعرف يقودان، شاء أم أبى، إلى السادية في السلوك العام وفي مواجهة من يعترض على شخصه وعلى سياساته ومن لا يقف خاشعاً خاضعا أمام عبقريته ومن لا يمجده كما فعي وما يزال يفعل بعض وعاظ السلاطين البائسين والطائفيين المقيتين!
استمعوا إلى تصريحاته كاملة في قناة اللقاء لتتعرفوا جيداً على شخصية نوري المالكي وماذا يريد الآن وهل سيبقى يتآمر من أجل العودة إلى الحكم ثانية. إنه الماسك حالياً بزمام الأمور في الحشد الشعبي حتى الآن وليس الدكتور حيدر العبادي، وما ترتكبه تلك الجماعات في الحشد الشعبي التي تأتمر بأمره ليس إلا عملية انتقام ممن يعتقد بأنهم كانوا السبب في إجباره على التخلي عن دورة ثالثة في الحكم، ويعني بهم أهلنا بالأنبار وصلاح الدين وديالى ونينوى، وهو ما ينبغي أن ينتبه له السيد رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي، وإلا فالمصيبة كبيرة لما يمكن أن يحصل في هذه المناطق بعد التحرير. بالأمس فقط نقلت وسائل الإعلام المحلية والدولية للعالم كله أخباراً خطيرة وأعمالاً شنيعة ومحزنة تثير غضب الإنسان لما جرى بتكريت بعد تحريرها من قطعان داعش المجرمين، بحيث وجد رئيس الوزراء نفسه مجبراً على إصدار أمر يقضي بإلقاء القبض على من يمارس التخريب والإساءة وغيرها بتكريت والمناطق الأخرى.
تجربة السنوات المنصرمة مع نوري المالكي تؤكد بما لا يقبل الشك بأن هذا الشخص ليس برجل دولة، بل هو جزء من المليشيات الطائفية المسلحة لا غير، وما لم ينتبه أعضاء حزبه والمتحالفون معه لطبيعة هذه الشخصية المتجبرة وأهدافها وأساليب عملها، فإنها ستقودهم جميعاً وتدفع بهم إلى طامة كبرى تذكرنا بما حصل لصدام حسين وحزبه وأعوانه.
5/4/2015