الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
أفكار للنقاش: هل من خلاص لشعوب الشرق الأوسط مما هم فيه الآن!!!

(1)

منذ أن انهار النظام السياسي والاقتصادي بالاتحاد السوفييتي ومعه منظومة الدول الاشتراكية بأوروبا الشرقية، نشأ تصور عام يشير إلى إن الحرب الباردة قد وضعت أوزارها وانتهى معها التناقض والصراع المباشرين اللذين شغلا العالم كله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بين هذه المجموعة من الدول والدول الرأسمالية المتقدمة، وإن التناقض والصراع الرئيسي بين حركات التحرر الوطني بالدول النامية والدول الرأسمالية الكبرى، الذي كان قد تراجع إلى الخلف، سيبدأ من جديد بالفعل والتفاعل مع الأحداث الجارية ويتخذ أبعاداً جديدة لصالح تحقيق الاستقلال والتنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي وحقوق الإنسان والحريات العامة بالدول النامية. وإذا كان لهذا التصور جانب من الصواب، فأن له جوانب أخرى لم يحسب لها حساب ولم تكن على بال الكثير من الناس، وأعني بذلك خمس مسائل جوهرية:

أ‌. إن الدول النامية قد فقدت حليفاً كان مفيداً لها في مواجهة بشاعة ووحشية الرأسمالية العالمية في استغلالها للشعوب وفي الحد من قرارات مجلس الأمن الدولي المناهضة لنضال الشعوب النامية، وهذا يعني إن الدول الرأسمالية المتقدمة ستتفرغ دون رقيب أو حسيب لشعوب البلدان النامية لتوظف مواقعها السياسية وقدراتها العسكرية والاقتصادية لفرض هيمنتها الفعلية عليها بطرق وأساليب أخرى تختلف عن تلك التي مارستها الدول الاستعمارية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، أو بتعبير أدق حتى نهاية العقد السادس من القرن العشرين حيث كانت موجة التحرر الكبرى منذ منتصف الخمسينات ببلدان العالم الثالث لتحقق لها أقصى الأرباح والفوائد العملية على حساب شعوب البلدان النامية.

ب‌. وإن البلدان النامية، التي تشكل محيط الدول الرأسمالية المتقدمة، ستواجه تحكما رأسمالياً كبيراً بسبب امتلاكها لمنجزات الثورة العلمية – التقنية والاتصالات والمؤسسات المالية والتجارية الدولية الخاضعة لها وهيمنتها على الاقتصاد والسياسة بالعالم، وستكون هذه الهيمنة ليس أخف وطأة على شعوب الدول النامية عما كانت عليه الهيمنة قبل ذاك، بل ستبرز في أشكال أكثر قسوة من الاستغلال وأكثر تأثيراً سلبياً على مسيرة شعوبها، خاصة وأن المنافس والمناهض لسياساتها على الصعيد العالمي قد اختفى بصيغته السابقة. ويمكن توصيف الحالة الجديدة بالاستعمار الجديد.

ت‌. وإن الدولة الرأسمالية المتقدمة ستتخلى في بلدانها عن سياسة المساومة بين العمل ورأسمال المال التي مارستها في سني الحرب الباردة وستعود إلى جشعها في تحقيق المزيد من الأرباح على حساب تقليص حصة العمل الأجير من القيمة المضافة. وهذا يعني إن المواجهة بين العمل ورأس المال في الدول الرأسمالية عموماً والمتقدمة منها على نحو خاص ستتخذ أبعاداً وصيغاً جديدة أكثر حدة، خاصة وإن الدول الرأسمالية واحتكاراتها الكبرى بدأت منذ سنوات العقد الأخير من القرن العشرين تنتزع بسرعة فائقة أغلب المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت في فترة الحرب الباردة للطبقة العاملة والفلاحين والبرجوازية الصغيرة بالمدن والمثقفين. وهو ما سيجعل التناقض والصراع ينمو ويتسع ويتخذ أبعاداً جديدة.

ث‌. وإن الصراع في ما بين الدول الرأسمالية على الصعيد العالمي سيتخذ أبعاداً جديدة وستعود إلى الواجهة صيغاً أو صيغة أخرى من الحرب الباردة ومن سباق التسلح النووي والأكثر حداثة وأكثر قتلاً في البشرية وأكثر تدميراً لحضارة الإنسان ويهدد العالم بحرب جديدة يمكن أن تنجد منافذ ومسارب لها في حروب إقليمية عاصفة ومدمرة.

ج‌. وفي الجو العام الذي ساد حينذاك لم يجر التفكير الجاد بما ستؤول إليه حقوق الإنسان وجملة المواثيق والعهود الدولية التي صدرت بشأنها منذ ستينات القرن الماضي. واليوم يمكن تأكيد حقيقة أن حقوق الإنسان تتعرض إلى تجاوزات وانتهاكات فظة، وبشكل خاص حيات الإنسان وحريته وإرادته، وإلى المزيد من تحكم رأس المال والاستغلال والاستبداد وتراجع لمضامين الديمقراطية في حياة الكثير من شعوب العالم. كما يزداد سنة بعد أخرى عدد اللاجئين بالعالم.

وإذ تحتل هذه المسائل الخمس، إضافة إلى مسائل كثيرة أخرى، اهتمام شعوب العالم والقوى الديمقراطية والتقدمية فيها، فأن الكثير منها يتعلق بشعوب وقوميات الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تستوجب النضال وتعبئة الصفوف من أجلها لحماية حياة الإنسان وحريته وإرادته ومصالحه.

(2)

فمنذ أكثر من ربع قرن تتحكم الولايات المتحدة الأمريكية بالسياسية الدولية جارَّة وراءها دول الاتحاد الأوروبي والكثير من الدول النامية. وقد جلبت هذه السياسة بمضامينها اللبرالية الجديدة على مختلف الأصعدة الكثير من النزاعات الداخلية والحروب الإقليمية وتدهور في العلاقات بين الدول. وقد وظفت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من كتابها الباحثين السياسيين والاقتصاديين ومراكز البحث والدراسات الدولية لتبرير ما يحصل بالعالم من حروب وموت ودمار. فقد برز البروفيسور الأمريكي صموئيل هنتنكتون في كتابه الموسوم "صراع الثقافات" أو "صراع الحضارات" وموضوعته القائلة بانتهاء الصراع بين العمل ورأس المال، الصراع الاقتصادي، لصالح الصراع بين الحضارات والثقافات وبتعبير أدق "الصراع بين الديانات". وقد برَّزَ على نحو خاص صراع الإسلام مع المسيحية، باعتباره هو المحدد للصراعات القائمة بالعالم، ثم ساهم في تبرير ما جري ويجري في مختلف الدول، وبالتالي ساهم وعمق وبرر الرؤية المتطرفة والعدوانية في هذه الوجهة من الصراع ليغطي عملياً وبقصد مسبق على التناقض الرئيسي في الدول الرأسمالية من جهة والتناقض بين الدول الرأسمالية والدول النامية وأساسه الاقتصادي السياسي. ورغم هذه المحاولات التي ساهمت فعلاً في تأجيج الصراعات الدينية مستغلاً واقع الأمية ونقص التنوير الديني والاجتماعي وتخلف الحياة الاقتصادية والاجتماعية وما ينجم عنها من تخلف في الوعي الاجتماعي، فأن القطبية الواحدة بدأت تتزعزع في السياسة الدولية وتتخذ وجهة جديدة منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تقريباً، حيث برزت ظواهر ملموسة تشير إلى تعدد القطبية من جديد على الصعيد العالمي، مثل الصين وروسيا والهند، إضافة إلى بروز أقوى للتناقضات في ما بين مصالح المراكز الثلاثة للدول الرأسمالية المتقدمة، أي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان. لقد برز أقطاب جدد ومنافسون أقوياء للولايات المتحدة ودورها بالعالم ويقضمون تدريجاً من تضخم القطبية الواحدة المتعالية والمتجبرة. ولم تعد نبوءة مستشار الأمن القومي السابق بالولايات المتحدة الأمريكية، زبيغينو بريجنسكي، قادرة على التحقق حين قال بقناعة راسخة في أواخر القرن الماضي إن القرن القادم، القرن الحادي والعشرون سيكون قرن إمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية. وما نراه اليوم من عودة للحرب الباردة بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي خير دليل على التحولات الخطيرة الجارية والمخاطر التي تواجه العالم.

(3)

ومع إن العالم في فترة الحرب الباردة حتى العام 1989/1990 لم يشهد حرباً عالمية ثالثة، فأن الحروب الإقليمية والحروب الداخلية التي عاشت تحت وطأتها وعواقبها شعوب البلدان النامية لم تكن قليلة الفتك بالبشر وتخريب اقتصادياتها الوطنية وتدمير الكثير من البنى التحتية وإعاقة وضع وتنفيذ خطط تنموية بهدف تغيير بنية اقتصاديات هذه البلدان وتنويع مصادر دخلها القومي، أو تأمين إمكانية وضع حدٍ لاستنزاف مواردها المالية عبر الاستيراد السلعي الاستهلاكي وعجزها عن توفير فرص عمل للقوى العاطلة عن العمل وتفاقم مستوى وحجم الفقر والحرمان والتمايز الطبقي والاجتماعي، وبشكل خاص في كل من قارتي أفريقيا وآسيا، ومنها منطقة الشرق الأوسط. وتشير المعلومات المتوفرة إلى الحالة التالية: ".. شهد العقد السابق عددا أقل من قتلى الحروب من أي عقد آخر في القرن الماضي، بناء على بيانات جمعها باحثا معهد السلام في أوسلو بيثاني لاسينا ونيلز بيتر غليديتش، حيث وصل متوسط عدد القتلى الناتج عن العنف المصاحب للحروب حول العالم في القرن الجديد إلى 55.000 في العام، أي أكثر من نصف العدد في التسعينيات (100.000 قتيل سنويا)، وثلث عدد القتلى أثناء الحرب الباردة (180.000 سنويا ما بين عامي 1950 إلى 1989)، وواحد على مائة من عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية. وإذا ما وضعنا في الاعتبار تزايد عدد السكان في العالم، والذي تضاعف أربع مرات تقريبا في القرن الماضي، تكون نسبة انخفاض عدد القتلى أكثر حدة، وبعيدا عن كونها عصر فوضى القتل، كانت الأعوام العشرين التالية لانتهاء الحرب الباردة فترة التقدم السريع نحو السلام."( أكثر حدة، وبعيدا عن كونها عصر فوضى القتل، كانت الأعوام العشرين التالية لانتهاء الحرب الباردة فترة التقدم السريع نحو السلام. (جوشوا غولدستن، القرن 21 .. صراعات وحروب تهدّد السلام العالمي- عالم مجنون، موقع المجلة، مجلة العرب الدولية، سبتمبر/أيلول 2011). كان هذا التقدير لسنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن نجد وضعاً أكثر سوءاً وقتلاً ودماراً في النصف الأول من العقد الثاني من هذا القرن وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وبالدول العربية بشكل أخص. فهذه المنطقة من العالم لم تعرف السلام خلال العقود الستة المنصرمة والتي تفاقمت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، سواء أكان ذلك عبر انقلابات وحروب داخلية، أم عبر حروب إقليمية بين دول الجوار ولأسباب مختلفة. ويكفي أن نعرف بأن كل عقد من العقود الستة المنصرمة التي أعقبت قيام دولة إسرائيل حتى الوقت الحاضر شهد حراً أو أكثر بين إسرائيل وفلسطين والدول العربية حروباً كثيرة (أكثر من 10 حروب) كلفت الشعوب العربية، وخاصة الشعب الفلسطيني، خسائر بشرية واقتصادية وحضارية بالغة، كانت حروب استنزاف وتوسع إسرائيلي على حساب المزيد من الأراضي التي خصصت للدولة الفلسطينية على وفق قرار التقسيم لعام 1947/1948. وأصبح أكثر من 80% من أراضي فلسطين في العام 1947 تحت الحكم والسيطرة الإسرائيلية.

(4)

ومنذ انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان بضغط مباشر من التنظيمات الإسلامية السياسية العسكرية وبدعم إقليمي ودولي واسعين، وخاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وباكستان، إضافة إلى دعم دول الخليج وكبار أغنياء العراق، برزت على الساحة الدولية حركة إسلامية سياسية عسكرية دولية متطرفة هدفها الظاهر إقامة "الدولة الإسلامية" والعودة إلى "القرآن والشريعة المحمدية" تقودها منظمة طالبان في أفغانستان وتنظيم القاعدة على الصعيد الدولي، وكذلك بروز قوي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في الدول العربية وتركيا، وتبلورت بين الحركتين علاقات فكرية وسياسية وتنسيقية لم تنقطع، برزت بوضوح صارخ بعد وصول محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية في مصر. وقبل ذاك كانت الثورة الإيرانية الشعبية قد أنجبت لقيطاً هي الدولة الثيوقراطية وسلطة استبدادية وطائفية وتوسعية من حيث المذهب والمصالح الاقتصادية في المنطقة في آن واحد، لا تختلف عن الدولة السعودية إلا بالمذهب والسلوك الطائفي. وإذا كان للنظام الإسلامي السياسي الإيراني نفوذ كبير في قيادات وأوساط الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية العراقية في فترة الحرب العراقية الإيرانية وما بعدها، فأن هذا النفوذ قد تضاعف بشكل استثنائي وتعزز في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية وإقامة نظام سياسي طائفي بالعراق ودور الأحزاب الإسلامية الشيعية، إضافة لما كان لها من دور في سوريا ولبنان من خلال حزب الله، وفي المنطقة الشرقية من السعودية وفي صفوف الحوثيين الزيديين باليمن، وكذلك علاقتها مع حماس بفلسطين. ولم يكن ما حصل بمعزل عن دور الولايات المتحدة الأمريكية سواء أكان في شن الحرب أم في إقامة النظام السياسي الطائفي أم في فسح المجال لإيران في تعزيز نفوذها بالعراق أم بتوفير أجواء ادخل سعودي–تركي- خليجي في الشؤون الداخلية العراقية وإشاعة "الفوضى الخلاقة!" الأمريكية بالبلاد.

(5)

قاد كل ذلك إلى تأجيج صراعات قديمة جديدة ونشط بروز تحالفات سياسية ذات مضامين دينية ومذهبية بدول المنطقة حولت العديد من هذه البلدان إلى ساحات لمعارك طائفية مدمرة وأبعدت شعوب المنطقة ودولها عن سعيها إلى إقامة دولها الوطنية الديمقراطية ومجتمعاتها المدنية والديمقراطية. إذ أن من يتابع أوضاع المنطقة يجد نيران حروب عدة مشتعلة في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان ومخاطر جمة تحوم حول الجزائر ومصر والبحرين، كما يمكن أن تصل تلك النيران إلى دول أخرى اعتقدت حتى الآن بأنها في مأمن منها: كالسعودية وإيران وتركيا، وهي دول تشكل حالياً المنبع الأساسي للفكر السلفي الجهادي السني والإخواني والصوفي الفارسي المتطرف والإرهابي. وعلينا أن نلاحظ الزواج الفعلي الذي تم بين تنظيم داعش الإرهابي وتنظيم البعث الإرهابي بالعراق وفي مناطق أخرى ويمكن أن يعم المنطقة بأسرها من خلال القيادات القومية والقطرية لحزب البعث. ومثل هذا التحالف قد تحقق بالعراق فعلاً حيث يشكل الضباط وضباط الصف البعثيون القوة الأساسية في قيادة العمليات العسكرية لداعش بالعراق، وسيحصل هذا مع تنظيم البعث العراقي بسوريا ولبنان وغيرهما.

لم يأت هذا التوسع لقوى الإسلام السياسي الفاشية من فراغ أو دون تنشيط فعلي من الولايات المتحدة الأمريكية ومَن تحالف معها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. ففي أعقاب هذا الحدث الإرهابي الاستثنائي الذي وقع في الدولة القائدة للعالم الرأسمالي وفي عقر ديار الرأسمالية الدولية وفي أكبر مجمع للاحتكارات الرأسمالية، لم تدرس الولايات المتحدة سبل مواجهة مثل هذه الأعمال بل عمدت إلى طريقة الكاوبوي في الانتقام من الفاعلين وبسرعة والعفرتة (العفترة عراقياً) الدولية من منطلق الفكر النيوليبرالي، فكان التحالف الذي انقض على طالبان أفغانستان وأسقط نظام الحكم فيها وأقام نظاماً سياسياً جديداً. ثم تحركت الإدارة الأمريكية صوب العراق لتقيم تحالفا سياسياً وعسكرياً جديداً ضد النظام العراقي بذريعة امتلاكه للسلاح الكيميائي والجرثومي وإصراره على إنتاج السلاح النووي والذي لم يثبت صدقيته، فكانت الحرب الخليجية الثالثة تم فيها إسقاط الدكتاتورية البعثية وأقيم على أنقاضها النظام السياسي الطائفي البغيض الراهن. وكان أحد الأهداف المهمة لهاتين الحربين هو نقل ساحة المعركة مع الوليد الجديد والمشترك للرأسمالية العالمية المتحالفة مع الإسلام الرجعي، الإسلام السياسي الفاشي، من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية إلى العراق وأفغانستان وإلى دول المنطقة تدريجاً وفرت كل مستلزمات جر أغلب المسلمين الإرهابيين إلى العراق وأفغانستان ومن ثم إلى بقية الدول العربية والتي سميت في حينها بالفوضى الخلاقة ونشر الديمقراطية في هذه الدول!!

(6)

إن غالبية الدول العربية في الشرق الأوسط تواجه نزاعات وحروباً داخلية يمكن أن تتسع لتشمل دولاً أخرى. إذ أن الحروب الناشبة في دول المنطقة ليست من أجل توزيع المياه أو نزاعات حدودية تقليدية (وأن كانت تشكل احتمالات نزاعات وحروب لاحقة)، بل هي حالياً حروب دينية ومذهبية، أي إنها تنبع من واقع وجود تمييز عنصري أو تمييز ديني ومذهبي. ولكن علينا أن نعي بأن جوهر هذه الصراعات والحروب يكمن في موقع آخر غير العرق أو الدين أو المذهب، بل يكمن في تخلفها الاقتصادي والاجتماعي وضعف وعيها وفقر الغالبية العظمى من سكانها وما تعرضت له أو ما تزال تتعرض له من استغلال ونهب لخيراتها وفي التدخل الفظ في شؤونها الداخلية. وخلال الفترة الأخيرة تفاقمت الأوضاع السيئة وتبلورت على سطح الأحداث في ظاهرتين تمارسهما قوى إسلامية سياسية متطرفة وإرهابية على صعيد المنطقة، وتجد امتداداً لها ودعماً من قبل الدول الإقليمية والدولية:

الظاهرة الأولى: ممارسة التمييز الديني ضد أتباع الديانات غير المسلمة والعمل على تصفية الدول العربية من أتباع الديانات الأخرى غير المسلمة الموجودة فيها منذ آلاف السنين كالمسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين وغيرهم.

الظاهرة الثانية: تفاقم الصراع بين الأحزاب الإسلامية السياسية ذات النهج الطائفي السياسية، بين الأحزاب السياسية السنية والأحزاب السياسية الشيعية وإنزال هذا الصراع وتحويله إلى نزاع في صفوف الجماهير الواسعة من أتباع المذهبين الشيعي والسني في الإسلام، على السلطة السياسية والنفوذ والمال في هذه الدول. ونجد تجسيد ذلك صارخاً بالعراق وسوريا واليمن ولبنان ويمكن أن يمتد ليشمل دولاً أخرى عديدة. وقد نشأت ميليشيات طائفية مسلحة تمارس القتل على الهوية الدينية والمذهبية. وقد تفاقم هذا الوضع بالعراق مثلاً في فترة حكم إبراهيم الجعفري ونوري المالكي، وهما قائدان في حجزب الدعوة الإسلامية وفي البيت الشيعي العراقي! وهذا المشهد نجده بسوريا والآن باليمن.

(7)

وهذه النزاعات المسلحة والحروب لا تقتل نسبة مهمة من سكان هذه البلدان وتجهز على مواردها المالية ومشاريعها الاقتصادية وخدماتها الاجتماعية فحسب، بل تجهز أيضاً على أتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين، وتسقط من العملية الاقتصادية نسبة عالية من القتلى والجرحى والمعوقين، كما تصادر الحرية الفردية والحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل على نحو خاص وترسي دعائم استمرار الاستبداد والتخلف والفقر والفساد المالي والإداري والإرهاب الدموي. إن هذا الواقع الحالي المرير بحاجة إلى تغيير. وسوف لن يحصل هذا التغيير بين ليلة وضحاها, خاصة وإن العالم المتقدم لا يساهم في مكافحة ذلك والمساعدة في معالجة الأوضاع المتردية، بل يزيدها تعقيداً ويصب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة. والمشكلة الكبيرة التي تواجه عملية التغيير إن مثقفي هذه البلدان والعلمانيين والعقلانيين فيها لم يسمح لهم حتى الآن أن يلعبوا الدور المناسب والضروري لمواجهة هذه الأوضاع، بل هم يتعرضون لمحاربة شرسة من جانب أغلب حكومات هذه البلدان ومن القوى الإسلامية السياسية المتطرفة والإرهابية فيها.

(8)

ورغم ذلك فهذه الحالة المزرية والمصاعب الجمة داخل تلك البلدان يجب أن تحرك كل الناس الواعين وكل المثقفين العقلانيين ومن كل الأجيال إلى خوض النضال بكل أشكاله الممكنة من أجل دحر هذه القوى المصابة بجرب التمييز العرقي والديني والمذهبي أو الفكري، وأن ينتصر العقل والعقلانية في المجتمع. إن مسارب النضال وأشكاله كثيرة، منها ما يمكن أن يتم عبر أحزاب فكرية وسياسية علمانية ديمقراطية، ومنها ما يمكن أن يتم عبر منظمات المجتمع المدني الديمقراطية، ومنها منظمات حقوق الإنسان، ومنها ما يتم عبر الكتابة والنشر وعقد الندوات والمؤتمرات والفعاليات الجماهيرية وتوظيف جميع الفنون الإبداعية الإنسانية لهذا الغرض ولمزيد من التوعية العقلانية لشعوب هذه البلدان. ويفترض أن يستثمر الناس الواعون والمثقفون من جميع فئات وطبقات المجتمع كل هذه المجالات وتوحيدها في نهر جارف لكل هذه القاذورات التي تراكمت في المجتمع وعليه. إن المثقفين من كتاب وإعلاميين وفنانين إبداعيين ومختصين بمختلف العلوم الإنسانية ملزمون بممارسة الكتابة والنشر لرفع مستوى الوعي وتحقيق التنوير الفكري والاجتماعي ومحاربة الفكر اليميني الديني والقومي الشوفيني المتطرف، ومحاربة التمييز بكل أشكاله.

(9)

إن مثقفات ومثقفي الخارج من بنات وأبناء شعوب وقوميات الدول العربية يتحملون مسؤولية استثنائية في النضال من أجل حرية وحقوق شعوبهم من جهة، ومن أجل تعبئة شعوب الدول الغربية لصالح دعم ومساندة نضال شعوبنا التي تشتعل فيها نيران الحرب المدمرة وسباق التسلح واستنزاف الموارد المالية بالاتجاهات المدمرة وضد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وضد الإنسان بشكل خاص. إنهم يتحملون مسؤولية كبيرة إزاء شعوبهم وقضاياهم العادلة ونأمل أن يرتقي الجميع إلى عظم المسؤولية التي تواجه جميع المثقفين العقلانيين ولو بأضعف الإيمان. إن منظمات حقوق الإنسان، وتحت أي أسم ظهرت، تتحمل مسؤولية المشاركة في هذا النضال الإنساني النبيل، أياً كان مقدار المساهمة الممكنة منها ومن كل مثقفة ومثقف بالمنطقة. إن من واجبنا أن لا نسعى إلى إطفاء الحرائق المشتعلة ومنع نشوب حرائق أخرى فحسب، بل منعهم من وضع شعوبنا بين خيارين مرعبين: إما الدكتاتورية العسكرية وإما استبداد قوى الإسلام السياسي، ومنها استبداد الأخوان المسلمين أو نظم إسلامية مماثلة كالسعودية والسودان أو قوى وتنظيمات إرهابية متطرفة أخرى كالقاعدة وداعش والنُصرة .. أو الأحزاب الإسلامية الشيعية كما هو عليه الوضع بإيران أو بالعراق مثلاً.

10/4/2015         كاظم حبيب

  كتب بتأريخ :  الأحد 12-04-2015     عدد القراء :  3363       عدد التعليقات : 0