الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ماذا يجري بالعراق، وإلى أين تتجه المسيرة؟

منذ أن جرى تكليف السيد حيدر العبادي رئاسة الوزراء ظهر أمامي شريط سينمائي لما ستكون عليه الأحداث في الفترة القادمة. وسبب ذلك لا يكمن في القدرة على التنبؤ، بل بسبب تقديري وفهمي لتعقيدات الواقع الجاري بالبلاد والصراعات المتفاقمة والنزاعات العسكرية وميزان القوى في الداخل والتأثيرات الخارجية الإقليمية والدولية المتفاقمة على العراق. وقد شاركت مع عدد كبير من الكتاب والإعلاميين بالتنبيه لما يمكن أن يحصل في حالة الإبطاء في وضع سياسات واتخاذ إجراءات مهمة كفيلة بتغيير نسبي مناسب في ميزان القوى لصالح التغيير الضروري والملح في نهج العراق الطائفي والسياسات المخلة بوحدة العراق التي مارسها نوري المالكي. وأشرت أيضاً إلى الصعوبات التي ستواجه شخصية مثل حيدر العبادي، الذي يعتبر جزءاً من قيادة حزب الدعوة الإسلامية وعضواً في قيادة التحالف الوطني (البيت الشيعي)، بالتالي فهو محكوم بهذا القدر أو ذاك بقرارات هذا التحالف وسياساته وإجراءاته وبالمحاصصة الطائفية اللعينة التي لم يستطع حتى الآن التخلي عنها ولا أدري مدى قناعته بسوءاتها.

ورغم روح التفاؤل التي برزت على الساحة السياسية بعد تغيير نوري المالكي، وربما شملتني جزئياً، فأن ما كان يؤرقني في الوضع كله أن السيد العبادي غير قادر، وبعد مرور ثمانية أشهر على وجوده على رأس السلطة، على الإمساك بزمام الأمور، وأن المالكي ما يزال هو الحاكم بأمره بالعراق وبشكل مكشوف من خلال المليشيات الطائفية المسلحة التي لا تمتلك أسلحة متطورة وجيشاً جراراً من "المتطوعين" سمي بالحشد الشعبي في أغلبيته ولا يأتمر بأوامر رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية فحسب، بل وبسبب تأييد الحرس الثوري الإيراني وقواته الإيرانية الجرارة الموجودة بالعراق، إضافة إلى جواسيس إيران وعيونها حالياً والمساندة لهذا الحشد الشعبي الذي يقاد من قبل قادة عسكريين وسياسيين إيرانيين ومن قادة "عراقيين" يتبعون إيديولوجيا وفتاوى وقرارات السيد علي خامنئي، مرشد الثورة الإسلامية بإيران ويقلدونه كإمام لهم ويلتزمون حرفياً بما يطلبه منهم.

وكنت أتوقع أن نوري المالكي وجناحه القوي وأتباعه، الذين استفادوا كثيراً جداً أثناء وجوده في السلطة لتسع سنوات تقريباً وعلى حساب مصالح وقوت الشعب العراقي، سيضعون آلاف العصي الغليظة في عجلة حكومة العبادي الضعيفة والقائمة على المحاصصة أصلاً للإيقاع بالعبادي في أول نكسة عسكرية أو سياسية محتملة، إضافة إلى إنهم سينظمون أعمالاً تثير الفوضى والرعب وعندها تعود البلاد إلى ما كانت عليه قبل ذاك. وها نحن نواجه هذه الحالة حالياً.  

لقد عاد مسلسل التفجيرات التي هي في الغالب الأعم من القوى المرتبطة بداعش، ويمكن أن يكون بعضها من قوى أخرى تريد إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار والقول بأن العبادي لم يعد ماسكاً بزمام الأمور ولا بد من تغييره. كما عاد مسلسل الاغتيالات ليكون رعد الجبوري في قائمة الشهداء. أعرف تماماً بأن العراق لا يقف أمام طلاسم تحتاج إلى فك رموزها، إذ يمكن وضع اليد على القتلة إن أراد المسؤولون ذلك! فهل كلهم يريدون ذلك؟

رغم فترة الحكم القصيرة للسيد العبادي، فإنه استطاع استعادة الحوار مع أهالي وقوى المحافظات الغربية والسعي لتسليح المتطوعين منهم ولو بمقدار أولاً، وبدأ باتخاذ إجراءات لمعالجة المشكلات العالقة لدفع التعاون إلى ابعد الحدود الممكنة والضرورية، كما بدأ بإعادة العلاقات مع رئاسة وحكومة إقليم كردستان العراق وإيجاد حلول عملية أولية للمشكلات الراهنة، ثم حاول تحسين وضع القوات المسلحة العراقية ...الخ. ولكن لم يجرأ حتى الآن، رغم التأييد الدولي الواسع النطاق، والتأييد الشعبي الواضح له، أن ينفذ سياسات أخرى ويتخذ إجراءات أخرى لتغيير هذا الوضع، وبالتالي فأن الوضع بالعراق، ومعه العبادي، يمكن أن يكون في مهب الريح، وهو ما ينتظره منافسوه، وبشكل خاص جناح نوري المالكي.

فالجهة المضادة ما تزال تتآمر على العبادي، رغم إنه منها ولم يجرأ على اتخاذ إجراءات حازمة ضدها، لأنه لم يستجب تماماً وبشكل مطلق لما تريده منه أو ما يريده المالكي، وبالتالي فهي تفكر الآن في سبل إزاحته من السلطة. فهل باستطاعة هذا الجناح الطائفي المتطرف المدعوم بالمليشيات الطائفية المسجلة في الحشد الشعبي الذي يمثله نوري المالكي تحقيق هذا الهدف؟ هذا السؤال يحوم اليوم في سماء العراق لا كشبح بل كمحاولة جادة!

كما في الطرف الأخر من المعادلة المختلة تحاول قوى في الإسلام السياسي السنية هي الأخرى إثارة المتاعب للعبادي وتعقيد الوضع عليه بما يؤدي إلى اللقاء مع جناح الملكي، تماماً كما كان يحصل في التعاون بين المالكي والنجيفي مثلاً في الكثير من المسائل التي تجلب لهما البقاء في السلطة والمصالح المرتبطة بوجودهم فيها.

وفي خضم هذا الصراع وبطء المعارك العسكرية ضد قوات داعش في مناطق معينة من الأنبار وتأخر التحرك صوب الموصل وتفاقم التآمر المتعدد الجوانب قرر السيد رئيس الجمهورية العراقية الدكتور فؤاد معصوم القيام بزيارة إلى إيران. فما هي أهداف هذه الزيارة؟ كثيراً ما يلجأ الساسة العراقيون السفر إلى الدول المجاورة لطلب الدعم والمساعدة في حل المعضلات التي يواجهونها. ويمكن أن نتابع ذلك في نهج الأحزاب القومية العربية والأحزاب الإسلامية السياسية السنية التي تسافر إلى السعودية ودول الخليج وتركيا، كما يمكن أن نتابع ذلك في نهج الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية في سفراتها إلى إيران. أما الأحزاب السياسة الكردستانية فقد توزعت في سفراتهم على الدولتين الجارتين للعراق وإقليم كردستان، تركيا وإيران، إضافة إلى الولايات المتحدة، وعلى وفق الظروف والأوضاع. وفي هذا خلل كبير حقاً، إذ إن هذا الواقع يمنح هذه الدول الحق في التدخل بالشأن العراقي أكثر فأكثر، وهو يذكرني بما حصل حين سافر الجميع إلى طهران ليحسم الصراع لصالح ما أرادته إيران في أن يكون نوري المالكي رئيساً للوزراء في الدورة الثانية (عام 2010) التي تحولت إلى كارثة حقيقة للشعب العراقي كله ولكن وبشكل خاص لسكان محافظة نينوى، ومن ثم بدأ بالمطالبة ثالثة بخلاف ما يقرره الدستور.

إن تجارب الشعب العراقي بكل قومياته، وخاصة الكرد والعرب، بأن العلاقات الدولية تقوم على المصالح والنفع لكل منها وبالتالي فصداقات خاضعة لها دون أدنى ريب. وإذا كان هذا الواقع يمس جميع دول العالم دون استثناء، فأنه ينطبق بشكل خاص على الدول الكبرى. إن إشارتي هذه تنطلق من رغبتي في أن لا يضع القادة الكرد قضيتهم بيد الولايات المتحدة دون التحري عن التعاون والتعامل والتفاعل مع الدول الأخرى، إذ إن تجارب الكرد بكردستان العراق مع الولايات المتحدة بشكل خاص قد شهدت خيبة الأمل والإحباط والتخلي عن الوعود والالتزامات أكثر من مرة ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، دع عنك موقفها المناهض لحق الشعب الكردي في كردستان كل من الدولة التركية والدولة الإيرانية في تقرير مصيره بنفسه. إن هذا التحذير لا يعني عدم الاستفادة من موقف الولايات المتحدة الراهن، ولكن أن لا نضع بيضاتنا في سلة واحدة إذ لا يجوز أن يلدغ الشعب الكردي من جديد من هذا الجحر الذي لدغ منه عدة مرات. أتمنى أن تكون الدروس ماثلة أمام أنظارنا جميعاً. نحن بحاجة إلى تأييد الرأي العام العالمي والمجتمع المدني ولكن بحاجة إلى الحذر واليقظة في تعاملنا الإقليمي والدولي.

إن السيد رئيس الجمهورية يواجه مشكلات حادة على صعيد الوضع الاتحادي وأخرى على صعيد إقليم كردستان العراق. فعلى صعيد العراق يواجه حكومة طائفية ضعيفة لا تجد التأييد من البيت الشيعي كله ولا من البيت السني كله، وتواجه تآمراً متفاقماً وحاداً من نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي المستقوي بالحرس الثوري الإيراني وبالحشد الشعبي ولأن إيران لم تجد في المالكي شخصية مطيعة تماماً لأوامرها. وهو بهذه الزيارة يحاول إقناع مرشد الثورة الإسلامية بضرورة تغيير هذا الموقف لصالح العبادي من جهة، والطلب من المالكي إيقاف تآمره ودوره في الحشد الشعبي من جهة أخرى، فهل سيتمكن تحقيق ذلك، خاصة وأن إيران لا تشك بصداقة السيد فؤاد معصوم لإيران. هذا الأمر متروك للتطمينات التي يمكن أن يقدمها للساسة الإيرانيين وتوضيح مخاطر عودة المالكي للسلطة ثانية على مجمل الخطوات الإيجابية القليلة التي تحققت بالعراق خلال الأشهر المنصرمة. ولكن الأهم من كل ذلك أن لا ينتقل الصراع الإقليمي المتفاقم فعلياً في المنطقة، وبشكل خاص بين تركيا وإيران إلى الساحة الكردستانية لأن عواقبها وخيمة على المجتمع الكردستاني وعلى المنجزات التي تحققت خلال الأعوام المنصرمة، إضافة إلى الأذى الذي سيصاب به الجميع في مواجهة القوى التي لا تريد الخير للشعب الكردي وكردستان وهي كثيرة، كما إن الحديث عن إقليم السليمانية وإقليم أربيل ودهوك سيقود إلى عواقب شديدة السلبية وتمزيق وحدة الشعب الكردي التي كانت السبب وراء نضاله المظفر طيلة العقود المنصرمة، وبشكل خاص منذ العام 1998 حيث توقف أعلن إيقاف كل أشكال النزاع المسلح ومن ثم تشكيل حكومة الوحدة في العام 2005، رغم إنها لم تحقق الوحدة المنشودة. إن الفترة السابقة قد كونت أطراف ومصالح يهمهما أن تبقى الفجوة والصراع ، ولكن هذا لن يكون في مصلحة الشعب الكردي بالإقليم وعلى نطاق الأمة الكردية وكردستان الكبرى.  

وعلى صعيد الإقليم فأن وضع الإقليم في مواجهة داعش ونقص السلاح والعتاد وموقف الحكومة العراقية المتخلف في تقديم الأسلحة الضرورية لقوات البيشمركة من منطلق انعدام الثقة المتبادلة وتزايد عدد النازحين والمشكلات المرتبطة بذلك، إضافة إلى قرب إجراء انتخاب رئيس الإقليم، الذي أصبح مشكلة معقدة في العلاقة بين الحزبين ومع قوى وأحزاب أخرى. ففي الوقت الذي يرغب الحزب الديمقراطي تمديد رئاسة السيد مسعود البارزاني ولاية ثالثة، يرى الاتحاد الوطني وحزب التغيير غير ذلك. وبالتالي يمكن أن يقود هذا الاختلاف إلى تدهور أكثر في العلاقات بين الحزبين وإلى التخلي عن الاتفاقات السابقة التي ترفض استخدام السلاح في حل المعضلات القائمة بين الحزبين الرئيسيين بالإقليم، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، خاصة وأن هناك من يتمنى تصعيد الخلافات لتفجير الوضع بالإقليم. إن العودة إلى المبادئ الديمقراطية والاحتكام للعقل ومصالح الشعب الكردي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الإقليم تستوجب الجلوس إلى طاولة المفاوضات والاتفاق على حل سلمي وديمقراطي للمشكلة وبعيداً عن تأثير الدول المجاورة. فهل سيكون في مقدور السيد فؤاد معصوم إيجاد حل مناسب لهذه المشكلة أيضاً؟ إن المراكز الحكومية ليست هدفاً بذاتها، بل يفترض أن تقاس بما يمكن تقديمه للشعب من خدمات وما يمكن أن يساعد على التجديد والاندفاع صوب تحقيق نجاحات ونتائج إيجابية لصالح شعب كردستان بكل قومياته وسكانه.

إن إشكاليات العراق كبيرة حقاً ومعالجتها يتطلب من رئيس الحكومة الجرأة وهو يمتلك السلطة ولا يجوز له التلكؤ في اتخاذ ما يفترض أن يتخذه من إجراءات في مواجهة ضعف الحكومة الشديد بسبب المحاصصة الطائفية المقيتة والمعرقلة للتقدم والتطور والنجاح في مكافحة الإرهاب والقوى الإجرامية التي اجتاحت العراق. إن وحدة الشعب العراقي تنشأ من الموقف السليم إزاء هوية المواطنة العراقية الحرة والمتساوية، وليس اعتماد الهوية الدينية والطائفية المفرقة للصفوف، فهل يمتلك العبادي القدرة عل  تحقيق ذلك؟ الأيام القادمة هي القادرة على كشف المخفي والمستور والممكن بالعراق!

  كتب بتأريخ :  الأحد 17-05-2015     عدد القراء :  3309       عدد التعليقات : 0