منذ سنوات ما بعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة تحول الفساد، الذي كان موجوداً بالعراق، إلى نظام فعلي معمولٍ به من جانب الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبمؤسساتها وهيئاتها وجميع صنوف قواتها المسلحة، بإقليمها الكردستاني ومحافظاتها دون استثناء. كما شمل هذا النظام مئات الآلاف من كبار ومتوسطي وصغار الموظفين والمستخدمين، إضافة إلى شموله جميع فئات الشعب التي كانت مجبرة على تمشية قضاياها من خلال دفع الرشوات للموظفين. وساهمت في هذا الفساد الاستثنائي المخيف جميع الشركات المحلية والإقليمية والأجنبية دون استثناء. وكانت الميليشيات الطائفية المسلحة في مقدمة من مارس الفساد والإرهاب معاً. وكل هذه الجهات والأطراف، ساهمت، بهذا القدر أو ذاك وسواء أدركت دورها أم لم تدركه، في ظهور الإرهاب وتكريسه في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليومية بالعراق على امتداد الفترة الواقعة بين 2003 حتى الوقت الحاضر والذي أدى إلى قتل عشرات ألوف العراقيات والعراقيين الأبرياء وإلى اختطاف وقتل واغتيال المئات من المناضلين الإعلاميين والعلماء والمثقفين وإلى تخريب الاقتصاد والمؤسسات والهدم المتواصل للبلاد.
ولم يكن الفساد مقتصراً على ابتلاع أموال الشعب المودعة بخزينة الدولة بموارده النفطية وعقاراته ودور السكن والمتاحف وما إلى ذلك فحسب، بل كان الفساد في جوهره من طبيعة النظام السياسي القائم على التمييز بين المواطنات والمواطنين على أساس القومية والدين والمذهب والجنس والحزب والإقليم والمحافظة والمحلة، إضافة إلى القرابة والصداقة والانتهازية. كما لم يكن الفساد مقتصراً على ذلك فحسب، بل شمل أغلب التعيينات لكبار المسؤولين والسفراء والمستشارين والخبراء والمدراء العامين والفضائيين والحمايات وغيرهم كثير ودفع رواتب عالية جدا..، إضافة إلى دفع المخصصات والامتيازات غير المعقولة والمرفوضة والمنطق والدستور ومن الشعب أساسً. كما شمل الفساد شركات المقاولات والعقود وبأرقام خيالية وخاصة عقود استيراد السلاح والعتاد والعدد وما إلى ذلك، إضافة إلى نهب النفط الخام وشحنه بالشاحنات الكبيرة إلى الدول المجاور أو عبر نقالات النفط البحرية أو عبر أنابيب نقل النفط دون عدادات من البصرة وكركوك وغيرهما وتوقيع عقود ليست في صالح العراق وإقليم كردستان العراق. وكل هذه الأنواع من الفساد سادت بالعراق وما تزال سارية حتى الآن وستبقى سارية ما لم يتم تغيير فعلي وحقيقي في طبيعة النظام السياسي العراقي، في طائفيته اللعينة وطائفييه الذين ما زالوا حتى الآن يمارسون هذه السياسة، منذ تشكيل مجلس الدولة الانتقالي والحكومات المتعاقبة وخاصة حكومة نوري المالكي، ضد الشعب العراق ومصالحه، ولكن لصالح هؤلاء الحكام وامتلاء حساباتهم وجيوبهم بالسحت الحرام وبادعاء تمثيلهم أبناء وبنات هذا المذهب أو ذاك.
وإذ قمعت تلك المظاهرات التي خرجت في العام 2011 بأمر من رئيس الوزراء المستبد والمتوحش بأمره والقائد العام للقوات المسلحة ولم يحاسب على ذلك وعلى كل ما ارتكبه من مخالفات هائلة ضد الدستور والشعب والوطن، وإذ سكتت الجهات المسؤولة كلها على ذلك القمع الوحشي المناهض للدستور العراقي، بمن فيهم المرجعيات الدينية، فأن هذا الفساد والإرهاب قد تواصلا وتفاقما بالبلاد وقادا إلى ما هو عليه العراق حالياً، العراق المستباح بجزءٍ كبير من أرضه وشعبه من عصابات داعش المجرمة ومن المليشيات الطائفية المسلحة التي تفعل ما تشاء في محافظات الوسط والجنوب وبغداد حالياً. لم يعر المسؤولون لهذا الواقع المزري أي اهتمام، بالرغم من البرنامج الحكومي الذي أقسم رئيس الوزراء الجديد والوزراء، على تنفيذه. فكانت نتيجة ذلك صرخات عالية مبحوحة من كثرة الصراخ وكانت محبوسة، صرخات من فقراء العراق ومحروميه، من الشابات والشباب العاطل عن العمل، من تلك الملايين التي تكتوي يومياً بنيران جهنم العراقية في شهور الصيف اللاهبة التي "تفور الماء بالكوز في شهر تموز، وتذوب المفتاح بالباب في شهر آب"، ثم تحولت الصرخات إلى مظاهرات في أنحاء مختلفة من مدن الوسط والجنوب وبغداد. لقد كان حراكاً شعبياً يعبر عن استحالة تحمل الأوضاع المزرية والمطالبة بالتغيير. لقد كانت مظاهرات شعبية وصلت أخيراً إلى أسماع مرجعيات دينية سكتت طويلاً، حتى أدركت الخطر المحدق بالحكم، فنادت رئيس الوزراء وطلبت منه أن يمتلك الشجاعة لتنفيذ برنامجه في مكافحة الفساد. فهل هو قادر عليه؟
كان الفساد وما يزال بالعراق يعتبر نتيجة منطقية لطبيعة النظام الطائفي والفاسد القائم. والفساد لا يمكن محاربته بما صدر حتى الآن، رغم أهمية وضرورة تنفيذ ما صدر حتى الآن. الفساد بعبع كبير كامن في طبيعة النظام السياسي وسياسييه وقواه وأحزابه المشاركة في الحكم. وبالتالي فأن محاربة الفساد يعني المواجهة مع الجميع، ولكن بدعم من الشعب، وأضيف إليهم المرجعيات الدينية، وهو أمر مهم. ومع ذلك اعتقد بأن محاربة الفساد ينبغي أن يبدأ بما يلي:
** استقلال رئيس الوزراء العراق عن كل الأحزاب والقوى السياسية بما يساعده في أن يكون حيادياً في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق ومستقلاً ويحمل سمة المواطنة العراقية لا غير. وهذا الموقف المستقل يفرض عليه اتخاذ الخطوات الضرورية التي تسمح له بمثل هذه الاستقلالية والاعتماد على الشعب ومن يسانده.
** أن يمارس صلاحياته بتشكيل لجنة عراقية - دولية للكشف عن الفساد بالعراق. وهذه العملية معقدة تعجز لجنة عراقية مهما كانت مستقلة إنجاز المهمة في نظام فساد سائد وشمل جميع المسؤولين تقريباً أولاً، ولأن الفساد أصبح مافيوي مرتبطة بعدد من المافيات والقوى الإقليمية والدولية المشاركة بالفساد الجاري وعلى نطاق واسع ثانياً، ولأن العراق بحاجة إلى دعم مباشر من منظمة النزاهة والشفافية الدولية ذات المعارف والخبر الكبيرة في هذا المجال وذات القواعد والأسس التي تساعد في اكتشاف الفساد ثالثاً، ولأن هذه اللجنة العراقية-الدولية قادرة في الوصول إلى البنوك والشركات الإقليمية والدولية للحصول على معلومات قيمة عن الفساد والمفسدين وعن حساباتهم في البنوك والشركات والقصور في خارج العراق رابعاً.
** إن التعدد الراهن للجان مكافحة الفساد غير مجدٍ بأي حال، بل سيقود إلى عواقب غير جيدة. فلجنة النزاهة لم تفعل شيئاً، وكأن كان هناك من أسكتها طويلاً وقطع لسان مسؤوليها ولم تتحرك لتنفيذ واجباتها التي شكلت من أجلها، بل تحركت لأن المرجعية قد دعت إلى ذلك، وهذا خلل وظيفي كبير يعني إنها هي الأخرى فاسدة، وإلا لماذا سكتت هذه الفترة الطويلة ولم تكتشف إلا بعض الحرامية الصغار.
** يشعر الإنسان بعدم قدرة العبادي على خوض المعركة الكبرى، لأنها ليست معركة فساد فحسب، بل أوسع من ذلك بكثير. فهناك من يريد أن يحصرها بالفساد ويسكت عن الأسباب التي أدت إلى الفساد. وهذا الأمر خطير جداً، إذ سيعود الفساد ما لم تقلع الجذور التي أوجدته ومعه الإرهاب، أي المحاصصة الطائفية.
** إن البدء بالتغيير يتطلب دعماً شعبياً واسعاً ويومياً بحيث يحفز رئيس الوزراء على إجراء التغييرات الجذرية وبزخم متصاعد ومتعاظم تحركه الجماهير الشبابية، وإلا سيفشل وسيطاح به في خاتمة المطاف. فأعداء التغيير كثيرون وفي مواقع المسؤولية الكبيرة, ودول الجوار لا تريد للعراق أن يتخلص من نظامه الطائفي اللعين ولا من الفساد المبتلى به ولا من الإرهاب المدمر. وينبغي ممارسة الضغط على مجلس الوزراء ومجلس النواب ومجلس القضاء الأعلى، الذي هو الآخر يحتاج إلى تطهير جذري بكل قوامه، لكي يستقيم وضع التغيير ومكافحة الفساد والإرهاب، لتنفيذ ما صدر حتى الآن والحفاظ على زخم العملية حتى نهايتها المنشودة.
الشعب هو صاحب السلطات والقضية، وعليه تقع مسؤولية الاستمرار بمطلب التغيير الجذري حتى تحقيقه وهو قادر على ذلك!
10/8/2015