ظاهرة التمييز في ما بين البشر عرفت منذ القدم، وهي مرتبطة بطبيعة أساليب الإنتاج التي سادت في المجتمعات والتي مرَّ بها الإنسان عبر تاريخه الطويل وما يزال يعاني منها. وقد نشأت عبر علاقات الناس في المجتمع الواحد ومع المجتمعات الأخرى بسبب نشوء انطباعات وتصورات بعضهم عن البعض الآخر أو نقلاً عن الآخر، مما تسبب في بروز مواقف من جانب ألـ "أنا" إزاء ألـ "آخر"، والعكس أيضاً. وهي انطباعات جامدة يصعب إزالتها أو تغييرها بسهولة، إذ يطلق عليها في علم النفس الاجتماعي "نمطية" التفكير إزاء الآخر Stereotype. وبمرور الزمن اتخذت هذه الظاهرة قاعدة أيديولوجية متحكمة، رغم هشاشتها علمياً، إذ تكرَّست في وعي الناس وعاداتهم وطقوسهم ومواقفهم من جانب هذا الأنا أو ذاك الآخر.
وتبرز ظاهرة التمييز بصيغ عديدة نشير إلى أبرزها وأكثرها انتشاراً في العالم، وأن اختلف شدة بعضها وضعف بعضها الآخر بين مجتمع وآخر والتي ترتبط عضوياً بالمستوى الحضاري أو الثقافي والتقدم العلمي والوعي الفردي والجمعي، إضافة إلى قوة التقاليد والطقوس أو تأثير الديانات والمذاهب فيها، منها:
** الاعتقاد باختلاف الأعراق أو الأثنيات والقوميات كما تقسيم البشر إلى آريين وساميين وحاميين، وما نتج عنها من تمييز على أساس العرق أو لون البشرة أو الشعر أو اللغة..الخ، والعواقب المدمرة التي لحق بالبشر من جراء ذلك وخاصة إزاء الشعوب الأفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية من جابن الاستعمار الأوروبي لتلك المناطق.
** الاختلاف في الدين أو المذهب أو العقيدة.
** الاختلاف في الجنس بين الذكر والأنثى.
** التباين في مستوى الغنى والفقر.
** الاختلاف بين الشخص السليم والشخص المعوق.
** التباين في مستوى الثقافة والتعليم.
** الاختلاف بين الجماعات القوية والكثيرة والجماعات القليلة والصغيرة في المجتمع.
كل هذه الأنواع من التباينات وغيرها قادت وما تزال إلى التمييز الظالم في تاريخ مختلف الشعوب والمجتمعات، بعضها تخلص من بعض تلك الظواهر السلبية قليلاً أو كثيراً رغم تقدمه الحضاري، كما في موقف البيض إزاء السود بالولايات المتحدة الأمريكية، أو التمييز إزاء المرأة من حيث العمل والمناصب والرواتب بأوروبا. وكذلك التمييز بين الديانات والمذاهب.
ومجتمعاتنا النامية، ومنها العراق يعاني من جميع أشكال التمييز، وأن لم يبدو بعضها صارخاً. فالتمييز إزاء الناس بسبب لون البشرة السوداء معروف في جنوب العراق مثلاّ، والتمييز إزاء المرأة سائد في كل أنحاء العراق وبشكل مقرف ويعبر عن فاقة في التفكير وتخلف في الحضارة. وكذلك التمييز بين الأغنياء الفقراء حتى لو كانوا من بالعي السحت الحرام، فالتمييز لصالحهم ضد الفقراء، والفقراء يشكلون السواد الأعظم. وكذلك موقف التمييز إزاء المعوقين والجماعات الضعيفة في المجتمع العراقي. ولكن أشكال التمييز البارزة ضد المرأة وضد أتباع القوميات الأخرى، وخاصة من الحكام ولكن لم يكن قليلاً في أوساط المجتمع، إضافة إلى اشتداد التمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى. وهي طامة كبرى. وهذا التمييز لا يظهر بين ب يؤمنان بمذهبين مختلفين فحسب، بل وبشكل شديد الأذى بين أتباع مذهبين إسلاميين لقومية واحدة هي العربية.
لا ينشأ التمييز من فراغ، بل غالباً ما ينشأ ويرتبط بمصالح اقتصادية استغلالية تثيرها النظم السياسية القائمة وينشطها المستفيدون من التمييز، عندها يمارس أفراد المجتمع على وفق مستوى وعيهم الفكري والسياسي الفردي والجمعي. ومع إن العراق عرف التمييز والصراع القومي والديني والمذهبي في فترات تاريخية مختلفة كانت السبب وراء الكثير من الموت والخراب والدمار والتخلف الحضاري. إلا إن الشعب قد استفاد من تلك التجارب وحاول الخلاص منها رغم دور الحكومات أو قوى معينة من شيوخ الدين الذين يؤججونها بين فترة وأخرى. ولكنها لم تبلغ الشدة في العراق الحديث منذ نشوء الملكية1921 حتى الآن، إلا في فترة عبد السلام عارف، وفترة البعث في الحرب ضد إيران، وفي الوقت الحاضر التي تفاقمت بحيث أدت إلى موت مئات الآلاف من بنات وأبناء الشعب من أتباع جميع الديانات والمذاهب. ولعبت الإدارة الأمريكية والأحزاب الإسلامية وقواها المتطرفة ميليشياتها وفتواها الدموية، كما فتاوى السعوديين، دوراً مريعاً في هذا الصراع الدامي بالعراق.
التمييز علة اجتماعية كبيرة ناجمة عن فاقة فكرية ومستوى حضاري متخلف وبدائي ورؤية أيديولوجية متخلفة عاجزة عن رؤية الواقع والتقدم الحاصل في المجتمعات البشرية، وهي ما تزال تعيش الماضي في حاضرها. وهذا ما يعاني منه المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة والعواقب كانت وما تزال مدمرة للوطن والمواطن وستقود، إن استمرت الطائفية في الحكم ومحاصصاتها المذلة وقواها المستبدة والجشعة، إلى عواقب وخيمة مماثلة لما حصل من اجتياح لمدينة الموصل ومحافظات أخرى.