معطيات الواقع العراقي، منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة في العام 2003، تشير إلى تعرض العراقيات والعراقيين إلى أربع موجات من الهروب والهجرة القسرية من العراق واللجوء إلى دول أخرى للحفاظ على حياتهم والعيش بكرامة وأمن واستقرار. وقد شملت مجاميع سكانية من مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية، ولكن بشكل خاص من الشبيبة، بلغت عدة ملايين. كما أنهم يأتون من جميع محافظات العراق ومن مختلف القوميات. وسنحاول فيما يلي الإشارة إلى موجات النزوح عن العراق والعوامل الكامنة وراءها:
أولاً: الإرهاب الأسود
الموجة الأولى: بدأت هذه الموجة مع انهيار النظام البعثي تحت ضربات قوات التحالف الدولي خارج إطار الشرعية الدولية وبقيادة الولايات المتحدة، حيث تعرضت جمهرة كبيرة من البعثيين ومؤيديهم إلى الملاحقة والاعتقال والتعذيب على أيدي الناقمين على النظام البعثي دون تمييز أو تدقيق ودون محاكمات أو اعتقالات قانونية. وقد تسبب هذا الفعل الهمجي المنفلت وغير الشرعي إلى ثلاث عواقب سلبية:
** هروب أعداد كبيرة من البعثيين ورجال الأمن والاستخبارات إلى كل من سوريا والأردن ومصر وغيرها من الدول لحماية أنفسهم من الاعتقال والقتل العشوائي المنفلت من عقاله.
** دفع ذلك إلى اصطفاف البعثيين والمتهمين بالبعثية في مواجهة النظام الجديد.
** هروب مجموعة من القتلة والمجرمين البعثيين ضمن موجة الهروب الواسعة والفوضى التي سادت البلاد وحل القوات المسلحة وغياب الدولة. وقد شاركت قوى عديدة بهذه الأعمال غير الشرعية وخاصة قوى الإسلام السياسي والتشكيلات الطائفية المسلحة.
الموجة الثانية: هذه الموجة بدأت مبكراً ولم تنقطع من حيث الهدف والتي استهدفت أبناء وبنات الشعب العراقي من المسيحيين والصابئة المندائيين على نحو خاص في جنوب ووسط العراق ومدن بغداد والموصل بشكل خاص. إنها موجة شاركت فيها جميع قوى الإرهاب، وبضمنها القاعدة والمليشيات الطائفية الشيعية المسلحة وقوى الجريمة المنظمة وبدعم من قوى حاكمة، كانت تريد الخلاص منهم والاستيلاء على ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة. وقد شملت هذه الموجة حرق الكنائس ودور المسيحيين والاستيلاء عليها ببغداد والموصل، كما قتل فيها الكثير من إيزيديي سهل نينوى والعاملين بالموصل.
الموجة الثالثة: بدأت هذه الموجة في نهاية 2005 وبداية 2006 حتى نهاية العام 2008 تقريباً، وهي الموجة التي تميزت بالقتل على الهوية وخاصة الهوية السنية والشيعية، ولكنها لم تستثن أتباع الديانات الأخرى بالقتل. وهي الموجة التي أرعبت الجميع وخاصة سكان بغداد والطرق المؤدية إلى المدن العراقية الأخرى ومنها بشكل خاص ديالى. وكانت موجة مجنونة ومرعبة للجميع.
الموجة الرابعة: وهي الموجة الأكثر شراسة وعمقاً وسعة وشملت محافظات عدة. وإذا كانت هذه الموجة قد بدأت بمحافظتي الأنبار وصلاح الدين، ولكنها تتوجت بالعار في اجتياح الموصل من قبل تنظيمات عصابات داعش وقوى البعث التي ساندتها وقوى أخرى تحالفت معها واستباحة سكان المدينة من المسيحيين والشيعة ثم تحولت صوب سنجار حيث منطقة الإيزيديين فاستباحتها بالكامل وقتلت الكثير من الرجال وسبت بين 5-6 ألاف امرأة إيزيدية من مختلف الأعمار وبشكل خاص الشابات والأطفال وهجرت أكثر من ثلاثة ملايين إنسان من مناطق سكنهم باتجاه المدن العراقية الأكثر أمنا مثل كردستان العراق، ومنها صوب الخارج لأعداد كثيرة من النازحين. إنها الموجة الأكثر همجية وبشاعة وعدوانية من جانب الإسلاميين السياسيين الفاشيين القتلة.
لقد قتل خلال هذه الموجات الأربعة، سواء أكان في ظل الاحتلال الأمريكي-البريطاني للعراق أم في ظل النظام السياسي الإسلامي الطائفي ومحاصصاته الطائفية والأثنية، وفي ظل حكومات علاوي والجعفري والمالكي حتى الوقت الحاضر، مئات ألوف البشر وجرح وعوق مئات ألوف أخرى، كما جرى تهجير أكثر من مليوني إنسان أضيفوا للملايين السابقة. كما هدم ودمر الكثير من التراث الحضاري العراقي الأصيل، تراث الحضارة الآشورية على نحو خاص والكثير من المكتبات ودور العبادة والمزارات والأديرة التاريخية. لقد ارتكبت جرائم بشعة بحق الإنسان وحضارته وتراثه الثقافي وذاكرته. وليس هناك من مسؤول فعلي عنها سوى قوى الاحتلال والاغتصاب والسرقة، القوى الطائفية المقيتة والنظام الطائفي المشوه الذي مارس التميز بكل اشكاله.
ثانياً: الفساد والتمايز الطبقي المتفاقم
لقد لعب الاحتلال والنظام الطائفي ومحاصصاته دوراً أساسيا في تفاقم الفساد ونهب ثروات العراق النفطية والمالية بالعراق، ومعه كردستان العراق، والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات وتوقف أي تنمية حقيقية للاقتصاد الوطني والتنمية الصناعية والزراعية والتشغيل اقم مستوى التمييز بين الأغنياء والفقراء وغياب فعلي للفئات المتوسطة في المجتمع. فنسبة الفقراء جداً تبلغ الآن أكثر من 45%، بينما نسبة الأغنياء ضئيلة جداً، وهم من سارقي لقمة الفقراء والمحرومين والكادحين.
إن الخلاص من الجروح النازفة ووأد عواقبها، ومنها هجرة الشبيبة، يتم عبر التغيير الفعلي للنظام الطائفي والأثني المحاصصي القائم ومحاكمة رموزه والمسؤولين عن كل ما حل بالعراق وشعبه خلال الفترة الواقعة بين 2003-2015 .