خلال الأسابيع القليلة المنصرمة شهد العالم عدداً من العمليات الإرهابية الإجرامية الكبيرة التي أودت بحياة المئات من الناس الأبرياء من مختلف الجنسيات وفي أكثر من بلد واحد، في نيجيريا ومصر ولبنان وفرنسا ومالي والعراق وغيرها. قُتل في الطائرة الروسية في شرم الشيخ 240 شخصاً بفعل وضع قنبلة، وفي لبنان عشرات الأشخاص وفي فرنسا 130 شخصاً ومئات الجرحى والمعوقين، وكذا الحال بمالي والعراق. إن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي التكفيري هو المتهم الرئيس في جميع هذه العمليات، في ما عدا عملية مالي، حيث توجه الاتهام لتنظيم القاعدة الإرهابي. ورغم تصاعد صيحات الغضب من قبل الدول الكبرى ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي، فأن المجتمع الدولي لم يحزم أمره موحداً ولم يضع الخطة الموحدة وكما ينبغي لمواجهة هذا التنظيم الإرهابي وتصفيته وإنقاذ البشرية من شروره. فما السبب وراء غياب الوحدة الدولية؟ ليس هناك من عاقل يشك بأن النفوذ والمصالح الجشعة للدول الرأسمالية الكبرى ببلدان ونفوط الشرق الأوسط يعتبر السبب الرئيس وراء عدم الاتفاق والذي تستفيد منه جميع التنظيمات الإرهابية وتمنحها القدرة في إنزال المزيد من الضربات والموت بسكان أغلب دول منطقة الشرق الأوسط، والتي انتقلت بفعالياتها من جديد إلى دول أوروبا ولا نستبعد إن تصل إلى أمريكا أيضاً.
لم تتحرك الدول الكبرى لمواجهة داعش منذ اللحظات الأولى لبروز هذا التنظيم ونشاطه، ولم تسع إلى تجفيف منابع إعادة إنتاجه، وهي التي تعرف جيداً بأن مصدر الوباء الدموي يكمن في المملكة العربية السعودية وقطر، بل راحت تعزز علاقاتها بهاتين الدولتين المتطرفتين وفتاوى شيوخهما وتبيع لهما المزيد من السلاح والعتاد الحديث والمتقدم الذي يستخدم اليوم في الحرب القذرة للتحالف العربي في اليمن والذي مول وما يزال يمول الإرهابيين من أتباع داعش والقاعدة وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإرهابية المشبوهة. نعم، لم يعي المجتمع الدولي طبيعة المخاطر الجدية التي تواجه الكثير من شعوب العالم أو لا تريد أن تعي ذلك؟
لقد قُتل بالعراق منذ سنوات حتى الآن عشرات الآلاف من العراقيين والعراقيات وهجر الملايين من الناس من مناطق سكناهم في الداخل والخارج. وهذا ما حدث مع سوريا حيث يقدر عدد القتلى حتى الآن بين 250000-300000 مواطن ومواطنة وهجر أكثر من 5 ملايين إنسان يعيشون في أسوأ الأحوال. وليست ليبيا بحال أفضل. لقد عمل بوش الابن وتوني بلير إلى نقل الإرهاب الدموي من أمريكا وأوروبا إلى الشرق الأوسط عبر حربي أفغانستان والعراق، والآن يعود هذا الإرهاب الدموي المجنون إلى أوروبا ثانية وليس بعيداً أن يعود إلى أمريكا وبقية الدول الأخرى، وهو ما حذرنا منه كثيراً ولكن لم تكن لهؤلاء أذاناً صاغية، بل كانت المصالح الأنانية قد أعمت بصائرهم وأبصارهم. وإن تصريحات الندم من بوش الأب وبلير لن تنفع أحداً من القتلى والجرحى والمعوقين ولن تعيد الحياة لهم كما لن تعيد الخسائر المادية والمالية والحضارية لأهلها، فمعاناة الشعوب وفقدان التراث الحضاري لا ينفعها الندم ولا يداوي جراحها ولا يستعيد ما فقدته من تراث عظيم، ولا بد كمن تقديمهما للمحاكمة..
وبالأمس تعرضت باريس، مدينة الحب والجمال، المدينة التي نشرت أفكار الحرية والإخاء والمساواة، هذه المدينة الساحرة التي هي قبلة الملايين من البشر سنوياً، تعرضت إلى أبشع جريمة إرهابية مارسها مسلمون سياسيون متطرفون وتكفيريون من أتباع التنظيم الإرهابي (داعش) وراح ضحيتها حتى الآن 130 شهيداً فرنسياً وأكثر من 300 جريح ومعوق. وكانت عواقب ذلك كثيرة منها :
** انقسام المجتمعات الأوروبية إلى نصفين: نصف ضد قبول اللاجئين والنصف الآخر إلى جانب استيعاب المزيد منهم، بعكس ما كان عليه قبل عمليات باريس. والبدء بتقليص عدد قبول اللاجئين والتوقف عن جمع شمل العائلات.
** تفاقم الوجهة اليمينية في السياسة الأوروبية على المستوى الأوروبي والوطني وتفاقم دور اليمين المتطرف.
** تنامي العداء للأجانب وتفاقم خشية المسلمين عموماً والعرب خصوصاً المقيمين في أوروبا من توتر العلاقات وتنامي الشكوك بهم وسوء المعاملة.
** اتخاذ الحكومات إجراءات أمنية مشددة بما في ذلك تقلص الحريات الفردية الشخصية والعامة، والحركة بين دول الاتحاد الأوروبي، وهي خسارة كبيرة للجميع.
إن معالجة الأوضاع لا تتم بهذه الإجراءات بل بوحدة المجتمع الدولي وممارسة الرأي العام العالمي للضغط على حكوماته لوضع خطة دولية ملزمة لمحاربة داعش والقاعدة وجبهة لنصرة وبوكو حرام والمرابطون وغيرها، وتحريم كل أشكال الدعم الخليجي ودول أخرى لقوى الإرهاب وحل الأزمة السورية ودعم التغيير بالعراق وإيقاف الحرب اليمينية ودعم جهود السلام بليبيا. إنه الطريق الوحيد للتفاهم بين الدول السبعة الكبار + واحد، إذ بدون روسيا لا يمكن النجاح في إيقاف الحرب بسوريا وتأمين الحل السلمي لبناء الدولة المدنية الديمقراطية على أنقاض الدولة البعثية المستبدة، والكثير من مشكلات الشرق الأوسط، والتصدي ضد التوجه لإقامة الدول الدينية.