الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
شارع المتنبي يبحث عن رأسه نصب الإرهاب
الأربعاء 31-12-1969
 
 نصيف فلك : 
تسللت في الليلة الثالثة الى شارع المتنبي بعد تفجيره . بيتنا قريب، اجد مفردة بيت كبيرة ومبالغاً فيها على هذه الخربة التي نسكن فيها انا وزوجتي واطفالي الاربعة . تقع هذه الخربة خلف مقهى ( الزهاوي ) .
طبعاً لم اخبر زوجتي الى اين ذاهب فستقلب الدنيا على رأسي لو عرفت؛ لانها سمعت من الجيران عن وجود اشباح وجن على شكل كتب تمشي محترقة ويتصاعد منها دخان ازرق .والجيران عرفوا أمر  الجن والاشباح من اللصوص الذين انسلوا صوب شارع المتنبي بعد تفجيره فور غروب الشمس . كانوا يمنون انفسهم بالعثور على النفائس التي لاتقدر بثمن، فهذا الشارع يشكل لغزاً غامضاً في اذهانهم : يسمعون عن كنوز وخاتم النبي سليمان هنا في هذا الشارع، وفيه خزائن قارون، وبيت المال المخفي الذي دفنه هارون الرشيد الذي مات في ارض الطوس دون ان يخبر احداً عن مكان، لكن جارية خلاسية سربت سر مكان بيت المال المخفي الى عشيقها الافريقي المسؤول عن تحضير العطور وتطييب جسد الخليفة. وهذه الخلاسية اكتشفت المال المخبوء في خدرها حين باح بسره فم الخليفة وهو نائم عندها.كذلك يتحدث اللصوص عن مسكوكات اغريقية من الذهب منقوشاً عليها اسم مملكة الالياذة، كان الملك هوميروس في رحلة اسطورية فمر بمدينة بابل واشترى بهذا الذهب قبة فضائية وخارطة للكواكب والنجوم من احد الفلكيين البابليين.ويتهامس اللصوص عن ثري روسي اسمه دستويوفسكي لعب القمار مع أحد العيارين وخسر ثروته كلها فمات مقهوراً في مدينة بطرسبورغ ولم يدفنه احد لكثرة الدائنين لولا الاخوة كرومازوف ، الذين قاموا بتجهيز نعشه ودفنه، وهرب العيار بالثروة التي كسبها بالغش وطمرها في اسطبل السراي أثناء الليل، حيث اجفل حصاناً فرفسه هذا وأرداه صريعاً في الحال.يتحدثون ويتلمضون هؤلاء اللصوص عن كنوز ونفائس المغول التي غنموها وكدسوها في سراديب ودهاليز هذا الشارع، حتى ان سيف هولاكو الذي ذبح( 1258 )بغدادياً لا يزال هنا في احدى مكتبات شارع المتنبي والدم الطازج يقطر منه الى اليوم.
لصوص الكوارثذهب اللصوص حالمين بصيد ثمين في شارع المتنبي بعد التفجير، لكنهم رجعوا مرعوبين وقد ابتلعوا السنتهم من الهلع، هربوا اسرع من الارانب تاركين نعالاتهم خلفهم من شدة الخوف. ولم يستردوا نعمة النطق والكلام الا عند صباح اليوم التالي، يبدو ان كل واحد منهم رأى منظراً يختلف عما رآه الآخر بيد انه لا يمكن الوثوق بكلامهم لشدة غرابته وفوضى تناقضاته، ثم انهم لصوص كوارث، فكيف لا يكذبون، لديهم ابشع شذوذ مر على النفس البشرية، شذوذ يشبه الى حد بعيد شذوذ الارهابي الذي يفجر ويذبح ويفخخ وينتحر بقتل الاطفال والنساء والعمال في”المسطر“ وطلبة الجامعة . أنا اتقزز من رائحتهم وكلامهم وقصصهم هؤلاء اللصوص، واتخيل كيف يسلبون جثة امرأة مقطعة وهم يبحثون عن أذنيها لعل فيها اقراط، هم بالضبط مثل ذلك النتن في واقعة الطف، الذي بتر خنصر الامام الحسين وسرق خاتمه. لذلك، لا يمكن التعويل على ما يقولون ، إلا أن الرعب وفداحة المناظر التي اهدوها جعلهم صادقين رغم أنوفهم ، يقول احدهم:لأول مرة في حياتي تغوص قدماي في”رصيف شارع الرشيد، هذا الشارع الذي احفظه عن ظهر قلب منذ طفولتي ، أشعرُ به الليلة غريباً، تندلع هنا مشادة في لغة لم اسمع بها من قبل، ثم يتفجر هناك نحيب متقطع يملأ صمت الشارع بينما تغوص قدماي في رمل، لا...لا، ليس رملاً بل فقاعات ضخمة كأنها لجلد بشري محترق، يغطيها رماد كثير، وحالما انعطفت لشارع المتنبي لطمتني أنفاس ملتهبة سلخت بشرة وجهي. رأيت عن بعد أشباحاً من دخان متجمد ، لها رؤوس من كتب تعصف بأوراقها ريح شديدة ، واقشعر جلدي من صريف انين فوق رأسي ، رفعت وجهي ونظرت للاعلى فرأيت: رؤوساً مذبوحة تطوف في سماء الشارع، يقطر منها الدم، كانت مشعة تنير ظلام ووحشة المكان، يتقدم سرب الرؤوس المحلقة رأس بهي المنظر واكثر نوراً من بقية الرؤوس . سمعته يهمس بصوت يختلط فيها الكرب العظيم مع الجذل العظيم ، يهمس بوهن ينبع من كل ركن في الكون، يهمس صبراً يا أهل: الدمعة والشمعة ، يا ابناء الغرق والحريق: صبراً يا فراش العطش: للضوء فالحب موعدنا وموعدكم، كونوا احراراً في بلواكم واخرجوا من جهنم الفتن بقلب سليم...وفجأة ارتطمت بعربات حمالين كثيرة ومندفعة تسير من تلقاء ذاتها، مملوءة باشلاء حمراء تتقافز مثل سمك يختنق، انا مذهول بما أسمع وأرى عندما صفعني كتاب مشوي الغلاف، جاءني مقذوفاً من عمق الشارع ومن جهة مقهى الشابندر، وبرمشة عين تركت نعلي وركضت مذعوراً بنفس واحد من شارع المتنبي حتى البيت.
لعنة اسلوب الغزاليفي الليلة الثالثة بعد تفجير شارع المتنبي دخلت متستراً بعباءة الليل كما يقول اجدادنا، لم أصادف ما ذكره لصوص الكوارث ، بل رأيت خليط شخصيات من كل زمان ومكان وكأن خيط الزمن انقطع وانفرطت مسبحة العصور والحقب، اذ لمحت يوربيدس وهوميروس يمشيان مع جيمس جويس وصموئيل بيكت، وهم يجيدون التحدث بجميع اللغات الحية فسمعت شذرات من حوارهم ، يقول يوربيدس:قتلونا المجرمين مرة اخرى واحرقونا بتفجير شارع المتنبي، فهل يفقأ هؤلاء الارهابيين عيونهم كما فعل اوديب حين اكتشف جريمته بقتله لابيه وزواجه من امه ، فهؤلاء يومياً يقتلون ابأءهم ويتزوجون امهاتهم ،والمهزلة يدعون انهم على دين محمد.يجيبه بيكت:اخزى كوارث البشرية تأتي من تلوث الاديان بالسياسة ومن الفهم الدموي للدين.رأيت الغزالي وابن رشد يجلسان على (قنفة) متفحمة وسط مكان موحش مدمر كان يسمى مقهى الشابندر ، سمعت الغزالي يبكي ويتعذر لابن رشد، ويقول ساخطاً: اللعنة على الاسلوب وعلى سهولة هضم الافكار التي تناغي وتداعب عقول العامة الدهماء، لقد جنيت على الفلاسفة وعلى المسلمين وعلى نفسي .اللعنة على الاسلوب الخبيث الذي دفن بريق افكار الفلاسفة واطمس لمعان معارفهم،لعب اسلوبي دور شيطاني لما حرف وغير مجرى التأريخ ، فهو اسلوب رائق سهل ، دخل ادمغة العامة بسلاسة خاصة في كتابي (تهافت الفلاسفة) الذي انتشر مثل النار في الهشيم. اللعنة علي وعلى افكاري ومعارفي وكتبي وألف لعنة على اسلوبي ، لقد صرت شيخ الاصولين، ثم امام التكفيرين والارهابيين، كيف اعلم ان اسلوبي الناعم الرقيق صار اليوم اسلوب الظلاميين المجرمين؟ هل ترى شارع المتنبي الان،انظر يا اخي ابن رشد:هذا هو اسلوبي ؟كيف ضعفت وخرت نفسي امام الشهرة ودحر الفلاسفة، وصرت المنظر الاكبر للسلجوقيين، قتلت العقل والفلسفة بنظام المدرسة السلجوقية، التي فتكت بالمفكرين والمعتزلة وازاحت وجوه التراث، بل مزقت وجوه التراث وابقيت على وجه واحد فقط لا يعترف بغيره. هذا الوجه هو اسلوبي الذي اوصل امة الاسلام الى الحضيض والى بانحطاط مزمن ومستمر حتى لحظة تفجير شارع المتنبي.
الكأس المقلوبة لفتت انتباهي جمهرة من الشعراء والروائيين والفلاسفة ورجال دين ومؤرخين ، اعرف بعضهم بالاسماء والوجوه والبعض الاخر بالاسماء فقط ، والبقية لا اعرفهم ولم اسمع بهم ، كان يتوسطهم الشاعر عمر الخيام صاعداً فوق عربة لبيع الشاي محترقة،الخيام يهتف بحنق وغيظ : فجروا شارع ارواح الكتب ، احرقوا ذاكرة الخلقية ، لكن الانسان اعلى واقدس ، كم مرة احترقت الكعبة وضربت بالمنجنيق ولولا الكتب وشارع المتنبي لما عرفت البشرية تلك الحوادث ، لكن الانسان اعلى واقدس ولما قرأنا كيف ارتفعت اذرع الدخان تتوسل الى السماء ان تحميها من القتلة الظلاميين مشعلي النيران. كم مرة أُحرقت وهُدمت واغرقت المراقد والمزارات في العراق وكان اخرها تفجير مرقدي الامامين في سامراء ولو الكتب كيف كنا سنعرف بصمات القتلة وهويتهم لكن الانسان اسمى واقدس . وها هي اذرع الدخان وأذرع الضحايا تتوسل دون جدوى. ثم انطلق الخيام ينشد ابياتاً من الشعر:
تلك الكأس المقلوبةالتي تدعى سماءالتي تحتها نعيش ونموتكالحشراتلا ترفع يديك طلباً للعونفهي ايضاً مغلوبة على امرهامثلي ومثلك.
 ذاكرة الكون وذاكرة الارض هنا في هذا الشارع، ذاكرة العراق الحية هنا لقد هرّب الحاملون الكتب من براثن الحكام والملوك والرؤوساء، هرّبوها لتفضح التأريخ المزور الذي كتبه جلاوزة الدينار، هل قدرنا ان نحترق في كل عصر على ايدي ذات القتلة كما قتلونا اليوم في شارع المتنبي؟
العقل المعاد من البلاستك المعادسحبني شخص من يدي وقادني الى زاوية قرب المصرف، لم أتعرف على وجهه جيداً فادرك هو حيرتي وقال : انا علي الوردي تعال لنسمع ابن خلدون ماذا يقول، وفعلاً كان ابن خلدون مع مجموعة شخصيات ادبية وفنية وعلماء ومؤخرين يتحدث وسط الانقاض ويشير بسبابته الى كتب محترقة : الكتاب ذاكرة والذاكرة خبرة انسانية ، والخبرة نضوج عقل يسعى للتطور وحقن الدماء وحماية بيت البشر (الطبيعة والكون) .يستمر ابن خلدون بقوله: انا اسمع كثيراً عبارة : التأريخ يعيد نفسه . وهذا معناه ان التفكير البشري راكد ومتعفن  بحيث انتج ما سبق انتاجه  واعاد مرة اخرى للوجود، هذا هو العقل المعاد، الذي يشبه حسب التعبير الشعبي : انتاج النعل من البلاستك المعاد.التأريخ يعيد نفسه معناه جمود زمني او زمن التخلف الدائري الذي يعيد نفسه دائماً في حلقة اسنة من التفكير الارتجاعي ومعناه انغلاق دروب العقل في حل المشاكل.التاريخ يعيد نفسه هو الغباء في عدم حقن الدماء، والتقدم الى التهدم، واستحالة وجود مستقبل، انما يدور نشاط هذه المجتمعات ذات التاريخ والعقل المعاد داخل دائرة الماضي فلا حاضر لهم ولا مستقبل وها هم الذين فجروا شارع المتنبي فرحون بعقولهم الآسنة، عقول البلاستك المعاد. سر تخلفنا ان تأريخنا دائماً وابداً يعيد نفسه.لم ارجع للبيت في تلك الليلة لان جواد سليم اخذني الى مشغله فهو يضع لمساته الاخيرة لنصب عملاق جديد، اختار له اسم : نصب الارهاب وعقله الملثم

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
محمود المشهداني رئيسا جديدا لمجلس النواب العراقي
هدف نتانياهو "عدم منح المرشحة الديمقراطية، كمالا هاريس، أي مكسب سياسي أمام الناخبين"
انتهاء الجولة الأولى لانتخاب رئيس البرلمان.. ماذا ينتظر المرشحون؟
العراق في المرتبة الرابعة عربياً بعمالة الأطفال وتحذير من تنامي ظاهرة "خطيرة"
"هل تريد أن أُقتل على الهواء؟".. مهدي حسن يتسبب في طرد ضيف أميركي
بعد فوضى وعراك.. البرلمان يفشل بإتمام جلسة القوانين الجدلية
مزحة قد تكلف ترامب حلمه بالرئاسة
السوداني: العراق أحد أكثر البلدان تعرضاً للتحولات البيئية والتغيرات المناخية
إحياء الذكرى الخامسة لانتفاضة تشرين وسط بغداد: الشهداء حاضرون في رايات المحتجين
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة الأميركية
مشادات كلامية داخل مجلس النواب.. ماذا يجري؟ وعدم انعقاد جلسة اليوم
المجمع الفقهي والوقف السني يرفضان تعديل قانون الأحوال ويطالبان بمدونة موحدة..
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة