شاعر عاش فقيراً ومات غنياً
حسن سرمك حسن: دمشق
(في مثل اليوم من العام الواحد والسبعين/في القرن الواحد والعشرون/سنكون دخلنا غاب النسيان/أجسادا أكلتها الديدان/لا ضحكة طفل، لا همسة حب ، لا حزن/في القرن الحادي والعشرين/سنكون بعيدين).
الراحل(رشدي العامل ) من قصيدة (مفكرة عائلية) ــ 6/10/1975(و أنا ضوء الفانوس/و حارس نصف الليل/و قاع النهر اليابس/و الفيل أحس الموت/و طفل ضيع طعم الثدي /و سجن غادره السجان/و قيد فارقه المعصم/و الكأس يغادرها الشارب،.. كنت وحيدا...)من قصيدة (سوناثا للوحدة) ــ 1977 1ــ في أخر مقابلة معه ــ مجلة (الأفق) نيسان/1990 ــ يتحدث رشدي العامل عن (وجه أمه)، واحدا من رموزه المتكررة، ثم يروي فجأة واقعة حياتية عن أمه التي قالت له قبل أيام: إن الأبناء يأخذون أمهاتم الي المتنزهات والمسارح، أما رشدي ففضيلته أنه لم يترك سجنا أو مستشفي لم يرني أياه) -من (العذاب السعيد) أو (جنات رشدي العامل) وهو التقديم الذي كتبه التاقد (حاتم الصكر) لديوان رشدي العامل الأخير: (الطريق الحجري) الذي كتبه صدر بعد وفاته، عام 1990. 2ــ رحيل (رشدي العامل) كما يصفه المبدع الراحل (مهدي عيسي الصقر): في كتابه: (وجع الكتابة ــ مذكرات ويوميات): يصف الراحل (مهدي عيسي الصقر) رحيل الشاعر (رشدي العامل) وتداعيات هذا الرحيل النفسية والحياتية، فيقول: (فجر هذا اليوم، الأربعاء، التاسع عشر من أيلول، عام 1990، ارتحل الصديق الشاعر رشدي العامل. ومع أنني شاهدتهم يهيلون التراب علي جثمانه، في القبر الندي، والشمس تجنح للغروب، إلا أنني لا أستطيع أن أستوعب حقيقة أن صاحبي الرقيق رشدي ما عاد موجودا معنا، فهو ما يزال ماثلا أمامي، في غرفته المنعزلة، في ركن البيت، وبابها المطل علي حديقة صغيرة (حديقة (علي ) كما يسميها، علي إسم إبنه البكر المغترب). أراه نصف جالس، نصف نائم علي الفراش، بين كتبه وأوراقه، وبضعة مقاعد للزائرين من الأصدقاء، يتحدث، يقرأ شعرا، يمزح، وجهاز مذياعه الصغير، علي طاولة قريبة، مع عدد من الأشرطة (خليط من موسيقي كلاسيكية، واغنيات لأم كلثوم، وماجدة الرومي التي كان يعشق صوتها) وعلي الفراش كتابان أو ثلاثة. وحين يريد شيئا من أمه ( العجوز الفذة، التي تشبه كثيرا (الأم الشجاعة) في مسرحية برخت) ينزل عن سريره، يتوكأ علي عصاه، ويمضي متأرجحا الي داخل البيت، بجسده الناحل المهدم. المقبرة في (أبي غريب) مكان شاسع، يتسع لألاف الراحيلين (و الراحلون ليسوا بحاجة الي مساحة كبيرة، علي أية حال) الطرق مرصوفة، نضيفة، تظللها أشجار كالبتوس ضخمة، المدافن موزعة في مجموعات، كل مجموعة من القبور لها رقمها الخاص، وثمة أسهم، عند مفترقات الطرق، تدلك علي أرقام المدافن، 19، 20، 21، إلخ. عند المدخل (الي المقبرة، غرفة صغيرة، أمامها رقعة مربعة كتب عليها (يرجي مراجعة الأستعلامات). ثمة رقعة أخري، علي جانب الطريق، الداخل الي المقبرة، تقرر سعر الدفن بـ (60 ) دينارا. كان عدد المشيعين كبيرا، يليق بهذا الأنسان النادر، الذي نذر للشعر حياته، فعاش فقيرا ولكنه مات غنيا، عندما أنزلوه الي اللحد، جاءوا بأبيه يودعه، قام رجلان باسناده، كل واحد منهما أمسك به من جانب، ومشي بينهما، بخطواته المتعبة البطيئة، شيخا قارب الثمانين، فجع قبل سنين، بموت ابن شاعر أخر، كأن قدر هذا الرجل أن يري أبناءه الشعراء يموتون قبله. جهش الشيخ المفجوع، فوق الجسد الذاوي، الملفوف بياض الكفن، والمسجي في القبر المفتوح: (مع السلامة وليدي...يا موهوب ) كان صوت ذلك العجوز النادب، وسط صمت الوجوه القانطة، مدمرا، أما (محمد ) الأبن الأصغر، للشاعر رشدي، فحملوه عنوة، بعيدا عن أبيه...) ثم يخاطب الصقر المفجوع صديقه الشاعر الراحل: (بقي أبنك المهاجر (علي) الذي لم يصله نبأ رحيلك بعد، يترقب منك أن تزوره، في غربته الطويلة، كما وعدته، وكانت هذه الزيارة حلما من أحلامك العديدة التي لم تتحقق. فوداعا يا صديقي. سوف افتقد نداءاتك الصباحية، أحاديثنا الطويلة علي الهاتف، وجلساتنا، في المساء في غرفتك الصغيرة، التي خلت منك الآن، وران علي أشيائها الصمت. أنت أيضا ــ مثل شاعر روايتي المريض ــ كان يعذبك الإحساس بالغربة، ويفتك بك الحنين الي وطن مع أنك كنت تعيش في أرضك، وبين أهلك واصحابك) ثم يختم الصقر حديثه عن رحيل العامل بالقول: (كان (الولد الموهوب) رشدي ــ كما ناداه أبوه الشيخ، وهو ينحب فوق قبره ــ يسمي كتابه الشعر (العذاب السعيد) إلا أنه ما كان سعيدا حقا، هو نفسه، وقضي العديد، من سنين حياته، حبيسا في زنزانة، أو ملقي علي سرير، في مستشفي، وأخيرا ارتحل، عن هذه الدنيا، محبطا مخذولا، وفي نزيف كلماته، المليئة بالمرارة في قصيدته (النزف)... يتنهد قائلا: (أشتاق أن أكتب، ما لا يكتب الليلة/أستل من عمق جراحي الشوك والسكين/و أزرع الغلة/أريد أن أضحك، أذرو في مهب الريح دمي، واستلقي وحيدا/أدفن الأحزان تحت الطين/لكنني... أصمت مخذولا/و قلبي... متعب جريح). 3ــ وفي هذه القصيدة: (النزف) التي كتبها رشدي عام 1987، سنلمس سمة غريبة تماما عن المسار العام، الذي ميز الإبداع الشعري للعامل منذ الخمسينات، وحتي وفاته من ناحية، ولا تتفق مع المناخ النفسي الشامل والطابع الأسلوبي لأغلب قصائد ديوانه الأخير: (الطريق الحجري) الذي صدر بعد وفاته من ناحية أخري: فالمسار العام للمنجز الشعري للعامل، وبشكل خاص في سنواته الأخيرة هو أنه أدب رحيل وخيبة يستولي عليه هاجس مرير بالمغادرة الوشيكة للحياة، شعور موجع بأنه، أي الشاعر، انما يعيش في الوقت الضائع من عمره الذي سحقته المرارات والشدائد. ويرتبط هذا الرحيل الوشيك عادة، ويا للعجب، بالبحر، ولذلك نجد شيوع مفردات البحر والسفن والشراع وما يرتبط بها في شعره، من جانب،وبالدور المدمر ل(مرأة)تقف وسط دوامة الخراب من ناحية اخري إما انها لا تنال رغم جهود الشاعر، المستميتة وتبقي انموذجا مستبعدا حتي الموت بفعل الأقدار الشخصية العاتية أو بفعل إرادة الخراب والفناء التي تمزق نسيج الوجود الفردي الهش أصلا. في عام 1955 يكتب العامل: (كأسي الي ثغري مشدودة/فارغة ظمأي الي الخمر) وفي عام 1966، يختم قصيدته: (البقية) بالقول مخاطبا أنموذجه الأنثوي:(منحتك ركفاي النجوم/و رعشة اللبل المرن/و رجعت فوق مرافئ النسيان/أجهل لون حزني/لا تسألي عني/ شتائي كل ما أبقيت، مني). أما في عام 1975، بعد عشر سنوات، فنجده راثيا لوجودنا المثكول في قصيدنه: (مفكرة عائلية) متحدثا بضمير المتكلم نيابة عنا: (في مثل اليوم من العام الواحد والسبعين/في القرن الواحد والعشرين/سنكون دخلنا غاب النسيان/أجسادا أكلتها الديدان/لا ضحكة طفل،/لا همسة حب،/لا أحزان،/في القرن الحادي والعشرين/سنكون بعيدين) وفي قصيدة: (حقل الأحزان) بعد عشر سنوات أخري، أي في عام 1985، يقول: (هنا لحظة الصمت/لا تسألي من يكون الحضور/و من يتحدث في غابة/في جزيرة/هنا باقة الورد تذبل/بين الأكف الفقيرة/أتعبتني البحار وأمواجهاضيعتني الدروب الأخيرة) .ويستمر شبح الأحساس بالإنجراح والخيبة وتداعي أركان الوجودي الفردي في أغلب القصائد المنجزة خلال المسافات الزمنية الممتدة بين تلك النماذج. لكن من الطبيعي أن تكون هناك ردود نفسية دفاعية يقوم بها (أنا) الشاعر لتخفيف حدة سياط القلق المشتعل. ردود واستجابات تحاول تحصين الأنا ضد الفناء وتمنحه شعورا ولو ظاهرا ومؤقتا، بأنه عصي علي المخالب الوجودية الماحقة. وقصيدة (النزف) التي أشار إليها المبدع مهدي عيسي الصقر هي شكل من أشكال تلك الردود الدفاعية الإبداعية لكنها وبسبب طغيان الشعور المتأصل في أعماق الشاعر بالتهديد والإنسحاق، تأتي مرتبكة لتنتهي بنفس الصورة القاتمة... والإرهاصات السوداوية الحاكمة المتسيدة علي انتاجه الكلي. تنتهي هذه القصيدة باليأس ونفض اليد من تراب الآمال الخادعة، علي الرغم من لعبة البداية المتفائلة التي يحاول الشاعر في استهلالها التوكيد علي ديمومة الحياة وانبثاق نبع البقاء من صخرة الآلام والموت: (الجراح التي شربت نزفها/حفرت ساقيه/و القلوب التي أكلت لحمها/زرعت بين حقل، وحقل شجيرات آس، وشتلات ورد/و حلما تراقص بين الجفون). ويستمر هذا النفس المتفائل متصاعدا حتي نهاية المقطع الأول الذي يخاطب فيه جسده، مادة البقاء والنماء وخميرة التجدد، ليتحول في المقطع الثاني الي الإعلان عن امنيه مشتهاة هي من نمط امنيات (الفداء) التي تلوب في دواخلنا كتشكيل ضدي للإحساس الراسخ بالهشاشة والقابلية علي الإنجراح والعطب. انها رغبة في التطهر وتعزيز قدرات الذات الممزقة علي المقاومة والتجدد:(أشتاق أن أكتب، ما لا يكتب الليلة/إستل من عمق جراحي الشوك والسكين/و ازرع الغلة /أريد أن أضحك، أذرو في مهب الريح/ دمي، واستلقي وحيدا/أدفن الآحزان تحت الطين....)محاولات دفاعيةو لكن لأن المحاولة دفاعية، تخديرية وخادعة، وليست أصيلة ومحكمة الموقع ضمن بنائه النفسي الأساسي، فان الـ (لكن ) تحضر سريعا لتجهض أمنية التجدد والإنبعاث وتصدم البصيرة المغيبة بصخرة الفناء المسننة: (لكنني أصمت مخذولاو قلبي متعب جريح) في المقطع الثالث يتحول إعلان الأمنية الي إعلان عن حلم مرتجي، حلم يضفي فيه الشاعر علي ذاته سمات أسطورية تضفي علي افعاله، المتمناة، بالنتيجة ملامح خارقة، فهو يحلم أن يسير فوق الماء ويطوي الفضاء الكوني، ليس كمشروع فداء وانبعاث مثلما حصل في الأمنية التي أعلن عنها في المقطع الثاني، ولكن من أجل تحقيق رغبة فردية محدودة تتمثل في اللقاء بأنموذجه الأنثوي. وهذه الأنتقالة التي تحول فيها الإنتفاخ النرجسي الهائل ذو الهدف الإنبعاثي الي حلم لاشباع رغبة عاطفية شخصية هي خطوة علي طريق التسليم والرضوخ والإقرار بسلطة الخراب الجائزة ممثلة في ختام المقطع في المساء المنطفئ والدمعة الخرساء اللذين ركبا للتعبير عن تزاوج دوافع الموت والحياة:(أحلم أن أسير فوق الماء/أن أقطع الأرض،/وأن أجاور الفضاء/لعلني يوما أري عينيك والمساءمنطفئا،/ألمح في العينين تهوي دمعة خرساء). و إذا كنا قد بدأنا القصيدة بمقطع اول تشيع فيه حيوية الإرادة وبهاء الحياة، وشكل خطوة، ولو قصيرة، في إتجاه الخلود الذاتي، ثم مررنا بمقطعين، ثان وثالث، انتقاليين بنيا علي أساس التمنيات والأحلام المؤجلة في وجدان الشاعر، تلك التمنيات والأحلام التي تحمل جنينها القاتل في أحشائها فيجهضها في الختام، علي الرغم من أنها لم تلامس أرض الواقع حتي في صيغتها الفردية الكسيرة، فإننا سوف نواجه مقطعا رابعا، هو مقطع للخراب الخالص المنتقي من شوائب النماء والسعي الخلودي الدفاعي. وفي هذا المقطع (ينزل) الشاعر من علية أحلامه وسماوات تمنياته الي أرض الإدراك الصلبة والقاسية، لايقف عليها ويصحومن الغيبوبة المنعشة حسب، ولكن ليصطدم بها ولتتحقق الإفاقة النهائية علي واقع الفناء الأسود الذي لا تجدي معه أي محاولات شعرية ترقيعية. ليس هذا فقط، بل نجده يعلن من دون مداورة ولا مناورة تجميلية أن لا دورشافيا لعمليات أسطرة الذات، ولا نجاعة لمحاولات تماهيها اليائسة مع نماذج احتزنها اللاشعور الجمعي لتجسيد معاني الفداء والإنبعاث. وفوق مديات الإحباط القصوي هذه والتسليم الممض بواقع الخراب الذي لا عاصم من سطوته، نجده يشكل صورة ممسوخة (راجعة) لنماذج التماهي والتوحد التي كانت النفس المحاصرة تجد في مسيرتها الفاجعة متنفس أمل وكوة خلاص: (في عالم مقلوب/أدري بأن الدم قد يذوب./أدري بأن العين لا تبصر،/و الراحل لن يؤوب/و الرجل المصلوب/بأتي ألينا حافيا تثقله الذنوب). و يصل هذا التسليم باللاخلاص والإقرار بأبدية الخراب منتهاه في المقطع الختامي والأخير ولكن كعادة النفس البشرية المحاصرة بلا هوادة فأنها لا يمكن أن تطأطئ هامة أمالها بانخذال مطلق، واندحار سلبي كامل. هناك، دائما، جذوة احتجاج، وارادة تمسك بالحياة مهما كانت بسيطة. رجفة الحياة الأخيرة التي تشبه اختلاجة المحتضر هي التي يفتتح بها الشاعر ختام الخراب، فتأتي مفارقة تماما لملامح الصورة الكلية اللاحقة، صورة، الأطلال والعفونة واليباب: (سكينة في الغاب/و زهرة ناعسة/و جدول ينساب).لكنه نداء رومانسي يتصاعدمن قبر،وحشرجة حياة مخنوقة تنفلت من بين أصابع المثكل الحديدية، عبثا يحاول الشاعر أن يغير بها، ولو بلمسة بسيطة، شيئا من اللوحة السوداء التي خطتها فرشاة الثكل المخلبية: (و عالم يسكنه الذباب/طعامه النمل، وطين الأرض والتراب/سور بالشوك والحراب/قضاته الكلاب/تحرسهم مخالب الذئاب/في عالم بيوته الأطلال واليباب).... وهكذا... من عالم رخي آسر تموج فيه شجيرات الآس وترقص في جنباته شتلات الورد... الي جحيم مزروع بالشوك والحراب، وتحكمه الكلاب والذئاب، ومن المشهد الأفتتاحي التفاؤلي الخادع، الي مشهد (النزف) المهلك الختامي، لكن في جعبة العامل دائما، المزيد من السهام الباشطة، دقيقة التسديد التي يجهز بها علي أخر رمق في أرواح آمالنا المفجوعة، فنجده يختم قصيدته بتحول صادم وشديد الإيحاء. كان الشاعر يحلم، أو يتمني أن يحلم، في المقطع الثالث، في أن يسير فوق الماء ويطوي الفضاء كي يري عيني أنثاه الحبيبة... والمفارقة تتمثل في أن الغاية يسيرة ولا تستلزم وسيلة خارقة، وهي مفارقة تعبر عن ارتباك الشاعر في تعامله مع قلق الموت -، لكنه الآن، يلغي أهم وظائف الحلم من الناحية النفسية، ممثلة في اشباع الرغبات المكبوتة أو المحبطة، ويحيله الي أداة لتعزيز قتامة المصير الفردي وتهالك الارادة والمراوحة في مستنقع العذاب، الشاعر ينزف حتي الموت: (أحلم أناغفو/و قلبي مثقل بالشك والعذاب/آه من السراب). 4ــ إن من الشواهد الأخري المهمة التي تثبت أن شعر (العامل) هو شعر (رحيل) أبدع تحت مطارق قلق الموت هو، علي سبيل المثال لا الحصر، أن ديوانه الشعري الأخير: (الطريق الحجري) الذي صدر بعد وفاته، ضم سبع قصائد تتحدث عن الرحيل، والغريب هو أن ثلاث منها تحمل عنوان (الرحيل). وهذه القصائد السبع هي: (رحلة) وكتبتت في عام 1965. (رحلة جديدة) ــ عام 1985. (الرحيل) -1986. (رحلة الصمت) ــ 1987. (رحيل) ــ 1988. (الرحيل) بلا تاريخ. (الشاعر راحلا) ــ بلا تاريخ. وفي قصيدة: (الشاعر راحلا) التي أهداها الي (ماجد العامل، في ذكري إبحاره الي الأبد)، نمسك بمفردات القاموس الشعري للعامل: البحر، المركب، الشراع،المرفأ... وغيرها من الكلمات، المشتقة لغويا أو معنويا من مفردة (الرحيل) المركزية، وهذه تتظافر مع ما يمكن تسميته بالبنية التحتية العميقة (اللاشعورية) التي يفرضها الإحساس الفاجع بقلق الموت والتي تتمظهر من خلال مفردة (الموت) المركزية وما يرتبط بها لغويا أو معنويا من مواقف وكلمات: (الجراح، الليل، الظمأ، البرد، الإنتظار، الجوع، وعيرها. ولكن لا يقل أهمية عن هذا الأمر وقد يفوقه أهمية، هو نبرة المرارة التي يتحدث بها الشاعر، مرارة حارقة من حياته، من مجتمعه المنافق، من واقعه المرائي، من العلاقات الزائفة من الأنتظار المديد الذي لا رجاء منه... من الحياة... من الموت... من كل شيء. وسيكون استنتاجا صحيحا ودقيقا إذا قلنا ان العنوان: (الشاعر راحلا) يعكس، بحق رحيل رشدي العامل في مشروع إبحاره الي الأبد ... هذا المشروع الذي تحقق للعامل ــ أو حققه ــ بعد سنوات عاصفة وحافلة بالآلام والمررات والأوجاع والإنهجار... والتغني القسري والراجف بالموت/ المثكل: (قد مللت الجراح ابعدوني/الي غابة لا تقيح فيها الجراح/و سأمت الوجوه خذوني الي جزر، لا تتلصص فيها العيون علي بعضها/ومججت مذاق الهوي/كذبة إثر أخري/طعام يعبأ في علب الكلمات/تباع علي الجائعين/علي الأبرياء وتشتري مللت الجراح، سأمت الوجوه/كرهت العيون، يطاردني الزيف في ومضها).