علاوة على تصفية عناصر حزب البعث القيادية (المتوازنة نوعاً ما) بعد تمثيلية عايش الدراماتيكية ، فأعتمد العديد من النقاد الجادين أساليب مختلفة في التعامل مع تلك المتغيرات ، لكنهم أتفقوا جراء إستفحال حدة القمع على تجاهل التاريخ الواقعي للحركة التشكيلية العراقية المتنامية منذ عقد الأربعينات وبالتالي ركوب موجة المؤسسة الثقافية الرسمية بمغرياتها العديدة
.وبديهي أن معظم هؤلاء الكتاب المتمكنين تحاشوا في كتاباتهم (لسبب أو لآخر) حتى مجرد الإشارة إلى منجزات المبدعين العراقيين الذين تم إعتقالهم أو تصفيتهم علاوة على هؤلاء الفنانين الذين ركنوا إلى خيار الهجرة إلى بلدان يمارسون فيها عملهم الإبداعي بحرية وكرامة غير متوفرتان آنذاك في وطنهم الملتهب بشعارات من نوع (ومعتصماه) التي أكل عليها الدهر وشرب .
في ذلك الوقت العصيب حاولت ضمن المتاح من أجواء تسمح أحياناً بشيء من الهواء الحر أن أعكس في كتاباتي دور المبدع العراقي الملاحق والمغيب والمشرد ، ولم أكن أكتب مواضيعي تلك من بلد إغتراب يقع على بعد مئات الأميال من العراق وإنما من العاصمة بغداد مستثمراً ثغرات الصحف العراقية الرسمية ذاتها آخذاً بنظر الإعتبار عواقب مثل هكذا توجه (أنظر الأحكام الصادرة بحقي في موقعي الخاص) ، وقد واصلت كتابتي (المتعثرة) في عدد الصحف العراقية بسبب (القمع الفكري) آنذاك إلى حين توقفي عن الكتابة في العراق بشكل نهائي بعد نشري عام 1992م لموضوع (سطوة النقد أم سطوة الناقد ؟) ، وكان لزاماً عليّ طوال (خمسة عشر) عاماً من الكتابة في العراق أن أفعل ذلك منتهزاً أية فرصة سانحة يمكن من خلالها إيصال تلك المعلومات (المحرمة رسمياً) إلى القارئ العراقي المبتلى بالعديد من مصافي الفكر المتمثلة بالعديد من الكتاب والرسامين الهزيلين الذين كانوا عماد مصفاة المؤسسة الثقافية الرسمية ، وكان من بين المبدعين الذين تناولتهم في كتاباتي : محمود صبري وحميد العطار ونعمان هادي وفيصل لعيبي وصلاح جياد وجودت حسيب وزياد مجيد حيدر (أثناء فترة إعتقاله بإنتظار تنفيذ حكم الإعدام) والسماري بن مسلم وبرهان صالح كركوكلي (بعد خروجهما من معتقلات الأمن العامة أثر عفو عام) ، هذا علاوة على إسماء أخرى عديدة كانت تؤرق موظفي المؤسسة الثقافية الرسمية آنذاك .
أنتهز هنا دعوة تكريم الفنان العراقي الكبير محمود صبري التي أطلقتها جريدة المدى مؤخرأ ، وهيّ ذات الدعوة التي كنت قد أطلقتها شخصياً قبل ما يقرب من (عشرين عاماً) ، داعياً فيها إلى إقامة معرض يليق بالمنجز الأبداعي للفنان الرائد محمود صبري ، لكنها لم تلق آذناً صاغية . أعيد هنا نشر ذلك الموضوع معتمداً النص الأصلي للمقال الذي سبق لي نشره في جريدة القادسية عام 1988م وذلك في باب (فنانون عراقيون) من الصفحة الثقافية للجريدة التي كان يشرف على تحرير قسمها الثقافي الكاتب المبدع الدكتور صفاء صنكور.
( الفنان دائماً هو مفكر إجتماعي والحرية أمر طبيعي بالنسبة للإنسان ، بيد أن النضال في سبيلها يستمر إلى الأبد ويغدو الشعب بطلاً )
محمود صبري
محمود صبري والفن الذي سيأتي
لربما لم يعان فنان عراقي على مدى العقود الأربعة الأخيرة ما عانى منه الفنان والإنسان محمود صبري ، فأن الهموم التي تنازعته والأحلام التي توزعته وذلك القلق الذي كان متغلغلاً فيه حد النخاع وذلك النزوع إلى المغامرة وركوب المستحيل للإستحواذ على تلك العوالم الجوانية المغرقة في التناقض التي تنوء بشتى المحبطات وتعج في الوقت ذاته بالعديد من اللذات والسحر المثير!أن ذلك الصراع الطويل الذي كان يدور في أعماق الفنان بين الأفكار الكبيرة وحلم الرسم الذي رجحت كفة الفن فيه آخر الأمر لم يكن معوقاً لفن صبري قدرما كان عاملاً محفزاً وإستفزازاً قائماً بشكل يومي . ذلك أن الوضع الإجتماعي في مرحلة الأربعينات وإبان ثورة تموز في الخمسينات وما عاناه العراق من تقلبات فكرية ونزاعات دامية ومميتة ولدت عند المثقف العراقي موقفاً حازماً ومشمئزاً من الأفكار الرجعية ومحاولات الإستجداء والتخاذل . وقد كان لهذا الجو أثر كبير في أعمال الفنان صبري فمجد التضحية والشهادة ومحبة العراق بأسلوب (تعبيري) فيه من التمكن الفني ما لم يستطع أي فنان عراقي تجاوزه من بعده ولاسيما في ملحمته الرائعة (ثورة الجزائر 1958م) ولوحة الشهيد مطلع الستينات.
عندما قفل محمود صبري عائداً من إنكلترا عام 1949م بعد إكماله لدراسته التخصصية في مجال العلوم الإجتماعية ، كان الفعل التشكيلي على أوجه آنذاك ، إذ كانت محاولات جواد سليم لإيجاد فن عراقي يستمد إسسه من التراث الرافديني والعالمي قد وجدت لها وقعاً في أذهان عدد قليل من الفنانين الشباب ، كما أن تجمع الفنانين العراقيين الآخرين وجد ذاته في حلقة الفنانين فائق حسن وعيسى حنا وسفراتهم الفنية لرسم مشاهد الضواحي والإطلاع على المنجزات العالمية من خلال الكتب والدوريات المصورة ، إضافة إلى أحتضان الفنانين للمبعوثين والدارسين في الخارج قد أدى إلى محاولة البعض ممن كانوا يمتلكون موهبة الرسم إلى المشاركة في هذه التجمعات والمساهمة في فعالياتها ، وقد كان محمود شغوفاً بالرسم فأنجرف مع جماعة البدائيين التي تأسست عام 1950م ، وهنا أبت أفكاره إلا أن تلقي بظلها على قماشة لوحته فأبتعد عن رسم المناظر الخلوية وأختار كبديل لهذا الأتجاه تصوير الشرائح الإجتماعية في محاولة لتعرية الوضع الطبقي القائم والذي طالما كان يصيب الفنان بالغثيان ، ولعل لوحته الرائعة المنفذة بألوان (الكواش) نساء في المبغى أو (نساء في الإنتظار 1952م) لا تكشف عن رجل سياسي محنك أو داعية للعدالة قدرما تكشف عن فنان متمرس ومتمكن من صنعته. إذ تمكن الفنان من خلال عدد من الخطوط القوية والعنيفة ومن خلال عدد بسيط من الضربات اللونية الكثيفة من إخراج لوحة متينة البناء غنية بالألوان والإنفعالات بالرغم من وضوح بصمات الفنانين الوحشيين وتأثر الفنان آنذاك بفنان الطاحونة الحمراء (تولوز لوتريك) .
في تلك الفترة أيضاً دعى الفنان صبري إلى إنزال الفن إلى الشارع كضرورة ثورية فكرية وإجتماعية عظيمة التأثير ومن أجل بناء قيم ذوقية جديدة . ولم يكتف الفنان برسم الطبقة المسحوقة ونماذجها المستضعفة أو المستلبة وإنما تطرق إلى موضوعات أثيرة وقريبة من نفوس وأذهان العراقيين فرسم مجموعة من اللوحات التي تدور حول موضوعات ذات دلالات روحية وغيبية (المصلوب -فداء السيد المسيح- ، الشهيد -نعمان محمد صالح- ، الشغيلة -طبقة الشعب المسحوقة-) وكان أن توج نتاجه هذا بلوحته الرائعة (ثورة الجزائر 1958م) التي تكشف عن عمق إنفعال الفنان وتأثره بثورة المليون شهيد .أن هذه اللوحة المنفذة بالألوان الزيتية وبأبعاد (190 x 250) سم والتي يلوح فيها وبشكل جلي تأثر الفنان بفكرة لوحة (الجورنيكا) للفنان المالقي بابلو بيكاسو لا تحوي فكر الفنان وموقفه من قضايا الحرية والحياة والقيم النبيلة قدرما تؤكد أهمية محمود صبري على الصعيد التاريخي في الفن التشكيلي العراقي الذي لم يجاره بأهميته آنذاك إلا الفنانين جواد سليم وفائق حسن وكاظم حيدر ، أن بساطة الإسلوب الذي أستخدمه الفنان صبري وتأكيده على أهمية الخطوط القوية والمتينة والحادة وتضادات اللونين الأحمر والأزرق بما فيهما من طاقة تعبيرية تراجيدية هائلة مما منحنا لوحة متكاملة ، إضافة إلى خلفية المشهد الناجحة التي عمقت الحس المأساوي من خلال مباشرتها غير الفجة ، كل هذا جعل من عمل الفنان صبري آية و(بياناً) متجدداً ضد الإستعمار والقمع اللا إنساني في الوقت ذاته.
إلا أن مشاغل الفنان والمواقع الإدارية التي أنيطت به لتمثيلها في بداية عهد ثورة 1958م أنعكست مردوداتها على عمله الفني ، إذ لم يتمكن الفنان من إنجاز لوحة الشهيد (على سبيل المثال) إلا في ثلاث سنوات ، كما أن مشاريعه الأخرى قد تعطلت كلياً . وفي خضم هذا الجو المليء بالتوتر قرر صبري أن يمنح نفسه كلية للرسم فيطلق الحياة الإدارية ومتاعب الوظيفة التقليدية ، وأخذ يصرح لعدد من الفنانين المقربين له بهذا الحلم الذي لم يتحقق إلا في عام 1963م حيث أنتمى إلى أحدى الأكاديميات في الأتحاد السوفيتي (آنذاك) وتأثر فيها بفناني الجداريات (أندريه روبولوف وديونيسس) ثم غادرها إلى براغ التي أستقر فيها بصحبة أحد الشعراء ، وفي براغ أنصرف الفنان إلى تجسيد حلمه الذي كان قفزة نوعية هائلة في سلسلة تطوره الفني فنشر بيانه الأول عن نظريته البلاستيكية الجديدة (واقعية الكم) أو كما جاء في بحثه المنشور باللغة الإنكليزية (فن العصر التكنونووي) والذي يمكن إعتباره وبحق أهم منجز شخصي على صعيد البحث المختبري والتطبيقي الجمالي ، كما أن واقعية الكم التي يقول عنها الفنان : أنها المعادل الموضوعي للعالم في مستواه الأعمق ... وأنها نقطة البداية للفن الذي سيأتي! ... يمكن أن تعتبر أهم مساهمةعراقية سبعينية أجراها ليس على صعيد الفن العراقي وإنما على صعيد الفن العربي والعالمي ، إذ أن واقعية الكم التي تعطي الإنسان صورة للطبيعة الداخلية للذرة إنما تعد أسلوباً يهتدى به لإعادة تشييد الطبيعة عامة في إمتزاج لا فكاك فيه بين العلم والفن الذي ينبغي أن يكون . إلا أن إعتماد الفنان على صيغ مغرقة في العلمية وإتخاذه من جداول الذرات والحسابات الدقيقة والمعادلات الكيماوية والفيزياوية وتأكيده على أهمية الطيف الذري للتعبير عن الحالة الجديدة للطبيعة والأشياء أوقع نظرية الفنان في مطب الرتابة والجفاف العلمي ، إضافة إلى أنها (أي النظرية) قد جعلت الفنان تابعاً لما تطلع عليه المختبرات من بحوث وأكتشافات وتحليلات طيفية ، وهذا يعني بأن على الفنان أن يركن مخيلته وأحلامه جانباً ويتفرغ كلياً إلى حسابات العقول الإلكترونية ونتائج المطياف .
ومع أن صبري قد عمل بدأب ومحبة لأجل أن يضع صيغاً ومنافذ جديدة للفن فأنه لم ينس أن يؤكد على عراقيته كما في المعرض الذي حققه في براغ عام 1971م على الرغم من أنه لم يقدم إلا أفكاره ورؤاه عن الفن التكنونووي التي بقي مخلصاً لها ومشذباً فيها ومضيفاً إليها في محاولة لتقليص الهوة بين تطبيقاتها الجمالية وأفكارها العلمية الصارمة ، وهذا ما أدى لأن تكون أعماله الأخيرة أقل حدة وأكثر تواصلاً مع المتلقي .
إنتباهة (وردت هذه الإنتباهة في نهاية مقال عام 1988م): وأنا أتناول منجز (الفنان الرائد محمود صبري) أجد أنها مناسبة طيبة لإقامة معرض تكريمي له أسوة ببقية الفنانين الرواد ، لاسيما وأنه أحد أهم الفنانين الأوائل الذين ساهموا في بناء الكيان الحقيقي للفن العراقي المعاصر ، كما أنه يعد وبحق أحد أغنى وأعمق الفنانين العراقيين الرواد أفكاراً وأسلوباً وتقنية. عامر فتوحي / الولايات المتحدة الأمريكيةwww.amerfatuhiart.com