الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
في الذكرى التسعين لاغتيال روزا لوكسمبورغ ولمناسبة عيد المرأة العالمي
بقلم : رضا الظاهر
العودة الى صفحة المقالات

تفاعل "البعد النسوي" والإنجاز النظري
تتهيأ البشرية بأسرها للاحتفال بـ 8 آذار، العيد العالمي للمرأة، الذي أطلقته القائدة الاشتراكية، كلارا زيتكين، وقد خص الرفيق رضا الظاهر هذه المناسبة بدراسته هذه المتميزة، عن روزا لوكسمبورغ، وهي واحدة من ألمع الشخصيات الاشتراكية التي اغتالتها مع رفيقها كارل ليبكنخت عصابات الضباط البروسيين، المتحالفة مع طلائع الحزب النازي، اوائل العشرينيات من القرن المنصرم، فترة امتداد اللهيب الثوري الذي اطلقته ثورة اوكتوبر الاشتراكية، الى انحاء مختلفة من أوربا.
ارتأينا ان ندشن بمقالة رفيقنا الظاهر احتفالاتنا باليوم العالمي للمرأة، الذي سنكرس له عدداً خاصاً يظهر في 8 آذار، الاحد القادم.
"طريق الشعب"

تبقى روزا لوكسمبور  ( 1871-1919 )، التي تواصل الأوساط اليسارية والتقدمية في العالم هذا العام إحياء الذكرى التسعين لاغتيالها، أعظم امرأة منظّرة في تاريخ الماركسية. ولسنوات كثيرة كان الزعم السائد بين الباحثين أنها لم تولِ اهتماماً بقضايا النساء، ذلك أنها كتبت القليل نسبياً عن تحرير النساء. وفضلاً عن ذلك فان كتاباتها غالباً ما تهاجم "النسوية البرجوازية". كما أنها لم تكرس وقتاً كثيراً للاهتمام بالعمل الناشط لصالح حقوق النساء. وبعد وصولها الى ألمانيا مباشرة رفضت أن تشغل موقعاً هامشياً "أكثر اماناً" كناطقة باسم النساء في الحركة الاشتراكية، ذلك أنه لم يكن لديها استعداد لقبول إبعادها عن القضايا الرئيسية التي تجادل فيها القيادة المؤلفة من الرجال.

تجاهل الشوفينية الذكورية

وعلى الرغم من العمل الرائد من أجل حقوق النساء من جانب قادة لامعين في الحركة الاشتراكية الديمقراطية مثل كلارا زيتكين وأوغست بيبل، فان الكثير من الرفاق الرجال، وخصوصاً من الجيل الأقدم، كانوا يعتقدون أن "مكان المرأة في البيت". 

وقد أشارت الأبحاث الحديثة ـ وخصوصاً كتاب الفيلسوفة الماركسية ـ الانسانية رايا دوناييفسكايا الموسوم (روزا لوكسمبورغ، تحرير النساء وفلسفة ماركس في الثورة) الصادر عام 1982 ـ الى الأبعاد النسوية لحياة وفكر روزا لوكسمبورغ التي لم تحظَ بما تستحقه من تقييم نقدي حتى ذلك الحين. وقد جرى تجاهل اهتمامها بقضايا النساء سواء في الدراسات الماركسية أو غير الماركسية. وتطلب الأمر من حركة تحرير النساء أن تكتشف "البعد النسوي" للوكسمبورغ الذي تحدثت عنه دوناييفسكايا في كتابها، حيث اقتفت آثار الطبيعة النسوية لحياتها. فكتّاب سيرة حياة روزا لوكسمبورغ . السابقون من الرجال لم يكونوا قد درسوا هذا الأمر.

ففي سيرة الحياة التي كتبها الباحث البريطاني بيير نيتيل ونشرت عام 1966 لم يكن هناك ذكر لأفكار لوكسمبورغ حول تحرير النساء. وفضلاً عن ذلك جادل كاتب السيرة بأنه "على خلاف رفيقتها كلارا زيتكين لم تكن روزا لوكسمبورغ مهتمة بحركة حقوق النساء، وكانت تعتقد أن المكانة المتدنية للنساء هي خصيصة المجتمع، ولا يمكن إلغاؤها ما لم تتحقق الاشتراكية، وبالتالي فانه ليست هناك حاجة للتعامل مع حركة النساء". ويتفق مع تحليل نيتيل هذا عدد آخر من الباحثين الذين كتبوا عن روزا لوكسمبورغ.

وكما لاحظ الباحث الأميركي بول لي بلانك، مؤخراً، فان روزا لوكسمبورغ "كانت تتمتع  بحس نابض بالحياة بتداخل تحرير النساء وتحرير الطبقة العاملة". وفي أواسط التسعينيات أشارت الفيلسوفة النسوية الأميركية أندريا ناي الى أن رؤية لوكسمبورغ الطبقية بشأن النسوية توفر "أساساً نظرياً يغيب في التفاوت الليبرالي وقضايا الاختلاف مابعد الحداثية". وفي عام 1988 فندت الماركسية النسوية الألمانية فريغا هوغ أفكاراً سابقة أحيلت لوكسمبورغ في ضوئها "الى فئة النساء المسترجلات، أي الى إحدى النساء اللواتي تعين عليهن التبرؤ من أنوثتهن والتكيف للعالم الذكوري من أجل تحقيق النجاح".

وكانت لوكسمبورغ على دراية حقاً بالمواقف الشوفينية الذكورية التي يتسم بها الكثير من أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وقد دعمت بالكامل، وإن يكن من خلف الكواليس في الغالب، عمل صديقات حميمات مثل كلارا زيتكين في اعتبار تحرير النساء "بعداً أساسياً في التحول الاشتراكي".

تاكتيكات ومبادئ

وتكشف مقالات لوكسمبورغ حول النساء عن اهتمامها بكفاحهن. ومن بين هذه المقالات، المترجمة حديثاً الى اللغة الانجليزية، مقال (مسألة تاكتيكية) ـ 1902، وهو هجوم على الاشتراكيين الديمقراطيين البلجيكيين، الذين تخلوا عن مطلب حق النساء في الاقتراع إرضاء لليبراليين. وقد ردت لوكسمبورغ في هذا المقال على القائدة الاشتراكية البلجيكية ايميل فاندرفيلده، حيث دعم تحالفها وحزبها حق الاقتراع الشامل للرجال، ولكنه تخلى عن المطلب الاشتراكي الديمقراطي الدائم بشأن حق النساء في الاقتراع.

ومن الواضح أن لوكسمبورغ لم تكن مهتمة بالتاكتيكات وإنما بالمبادئ. والمبادئ هي ليست فقط حق النساء في الاقتراع وإنما التمسك بالمناهج الثورية. وكانت تعارض أية "مساومة ... تكلفنا مبادءنا الأساسية". ولم تهاجم لوكسمبورغ هذه الخطوة حسب باعتبارها تخلياًَ مخزياً عن المبادئ الاشتراكية، وانما كتبت أيضاً حول كيف أن تحرير النساء يمكن أن يهز الاشتراكية الديمقراطية مثلما يهز الرأسمالية. وقالت "في الحياة الاجتماعية والسياسية للاشتراكية الديمقراطية أيضاً ستهب رياح قوية منعشة ارتباطاً بالتحرير السياسي للنساء، مما يمكن أن يزيل الهواء الخانق للحياة العائلية المحافظة الراهنة، التي تضغط، بصورة جلية، حتى على أعضاء الحزب، العمال والقادة على حد سواء". 

ومما أثار اشمئزازها أن يتخذ الحزب موقف البرجوازية نفسه، فيعلن أن النساء "لسن ناضجات بما يكفي لممارسة حق الاقتراع". وعبرت عن امتعاضها عندما كانت ترد على هذه الأفكار منطلقة من التجربة. وكما تشير دوناييفسكايا فان لوكسمبورغ استقالت كرئيسة تحرير لصحيفة الاشتراكية الديمقراطية لأن الرجال رفضوا أن يمنحوها الصلاحيات ذاتها التي كان يتمتع بها سلفها الرجل.

دفاعاً عن الاستقلالية

ولم تقتصر خلافاتها مع قادة الأممية الثانية حول "قضية المرأة" على هذا الحدث. ففي عام 1907 ألقت خطاباً في المؤتمر الأممي للنساء الاشتراكيات، كان حديثاً مباشراً صريحاً مع رفيقاتها، نصحت فيه المنظمة النسائية بقوة في أن تحتفظ بمقراتها في شتوتغارت حيث يمكنها الابقاء على وجودها المستقل عن المكاتب المركزية للأممية الثانية في بروكسل. وأشارت لوكسمبورغ قائلة "أنتن، على أية حال، من سيبعث الحياة في هذا المركز الأممي". وتظهر دوناييفسكايا لنا كيف أن لوكسمبورغ كانت ذات بصيرة عميقة في دعوتها الى استقلالية حركة النساء. وأصبح مبدأ الحركة النسائية الاشتراكية المستقلة مسألة مركزية عندما أثارت لوكسمبورغ غضب القيادة بحيث أنهم رفضوا نشر مقالاتها. وكانت صحيفة (المساواة)، وهي صحيفة الحركة النسائية الاشتراكية التي كانت كلارا زيتكين تترأس تحريرها "مكاناً لنشر آراء روزا لوكسمبورغ الثورية". والواقع أنها  أصبحت، في وقت لاحق، الصحيفة الناطقة باسم الحركة المناهضة للحرب عندما اندلعت الحرب العالمية الاولى، واقترفت الأممية الثانية خيانتها بالتصويت لصالح الحرب.

وفي عام 1912 جادلت ايضاً لصالح حركة لنساء الطبقة العاملة مستقلة عن منظمات نساء الطبقة الوسطى الألمانية في مقالها (الصراع الطبقي وحق النساء في الاقتراع). وفي عام 1914 نشرت مقالة تحت عنوان (النساء البروليتاريات) ـ ترجمت عام 2004 الى الانجليزية للمرة الأولى، وفيها عبرت عن التقدير الرفيع لمقاومة النساء في أوروبا وكذلك في أفريقيا وأميركا اللاتينية. وجاء في المقالة:

"إن عالماً من البؤس النسائي ينتظر الانصاف. فزوجة الفلاح تئن وهي تنهار تحت أعباء الحياة. وفي صحراء كالاهاري تتغير تحت الشمس ألوان عظام نساء هيرورو العاجزات، أولئك اللواتي تطاردهن عصابة من الجنود الألمان، ويخضعن للموت المروع جوعاً وعطشاً. وعلى الجانب الآخر من المحيط وفي المنحدرات الشاهقة لبوتومايو تتلاشى صرخات الموت التي تطلقها النساء الهنديات المعذبات، اللواتي يتجاهلهن العالم، وهن يذوين في مزارع المطاط التي يمتلكها رأسماليو العالم.

أيتها النساء البروليتاريات، الأفقر بين الفقراء، والأكثر سلباً لارادتهن بين العاجزات، أسرعن في الالتحاق بالكفاح من أجل تحرير النساء والبشرية من فظائع الهيمنة الرأسمالية".

وفي عام 1918 وفي ذروة الثورة الألمانية حثت لوكسمبورغ رفيقتها زيتكين على تأسيس قسم للنساء في عصبة سبارتاكوس وصحيفتها (الراية الحمراء). غير أن المرض أعاق زيتكين في حينه عن إنجاز تلك المهمة.

وامتدت كتابات لوكسمبورغ حول النساء الى عملها في الحركة البولندية. فقد صاغت البند العاشر من برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا وليتوانيا، الذي دعا الى "إلغاء كل قوانين الدولة، المدنية والجنائية، التي أصدرت على الضد من مصلحة النساء، أو التي تقيد، بأي شكل كان، حرية المرأة الشخصية وحقها في توزيع ثروتها أو حقها في ممارسة رعاية الأطفال بصورة مساوية لحق الأب في هذه الرعاية". ويشير ريتشارد أبراهام، وهو كاتب لسيرة حياة لوكسمبورغ، الى أن "لوكسمبورغ وزيتكين طرحتا مطالب للنساء كانت أكثر راديكالية من مطالب المنظمات الجماهيرية للنسوية البرجوازية، في حينه، دونما تسامح مع تخلي القادة عن ذلك".

ثنائية ملتبسة

غير أن المرء يمكن أن يلاحظ في مقالي لوكسمبورغ (الصراع الطبقي وحق النساء في الاقتراع) و(النساء البروليتاريات) نوعاً من تناقض في "البعد النسوي" للوكسمبورغ. فهي على دراية جيدة بالقوة الهائلة لحركة النساء ومطلب حق الاقتراع الهام سياسياً. وفضلاً عن ذلك يتجلى، في الخطابات والرسائل الخاصة، نقدها لموقف الحزب الذي يتسم بالتمييز الجنسي، وتقديرها لعمل رفيقاتها النساء، وخصوصا كلارا زيتكين. غير أن عداءها لحركة النساء البرجوازيات صارخ، وبعض تعميماتها تفتقر الى الدقة. فهي، على سبيل المثال، تقول إن "المرأة البرجوازية ليس لديها اهتمام بالحقوق السياسية لأنها لا تمارس أية وظيفة سياسية في المجتمع". والحقيقة إن حركة النساء البرجوازيات لم تسعَ الى حق الاقتراع فقط، وإنما ايضاً الى التعليم والمساواة.

ورفضت لوكسمبورغ الاعتراف علناً بما كانت قد جربته. وكان موقفها المعلن أنه بالنسبة للمرأة البروليتارية "فان مطالبها متجذرة عميقاً في الأزمة الاجتماعية التي تفصل طبقة المضطهَدين عن طبقة المضطهِدين، ليس في التناقض بين الرجل والمرأة، وإنما في التناقض بين العمل ورأس المال". ولم تعبر كلارا زيتكين عن هذه الثنائية كما يظهر من خطابها في تأسيس الأممية الثانية عام 1889، إذ قالت إنه "كما أن العامل يُستعبَد من جانب الرأسمالي تُستعبَد المرأة من جانب الرجل، وستبقى في ظل هذا الاستعباد الى أن تستقل اقتصادياً".

وتعلق الشاعرة والمنظّرة النسوية أدريان ريتش على تناقض لوكسمبورغ في مقدمتها لكتاب دوناييفسكايا قائلة: "غير أنه في حياة لوكسمبورغ القصيرة والتي أنهيت بوحشية، لم تتجسد النسوية والثورة البروليتارية". وقد كتبت دوناييفسكايا شيئاً مماثلاً إذ قالت إنه "بسبب رفض لوكسمبورغ الاشارة الى ما نسميه الآن الشوفينية الذكورية، خلال الجدالات المحمومة مع كارل كاوتسكي وأوغست بيبل، فان النموذجين من النشاطات (أي الكفاح الثوري العام وتحرير النساء) بقيا في موضعين منفصلين". إن عصرنا هو الذي شهد حقيقة أنه بالنسبة للنساء، لكي يجربن الحرية الكاملة، يجب عليهن خوض المعركتين كلتيهما. وبالاضافة الى ذلك فان الرأسمالية، كما لاحظ ماركس، تفاقم وتستغل كل التناقضات القائمة من أجل مصلحتها الخاصة.

ويوفر لنا كتاب دوناييفسكايا أن نفهم تعقيد بعدها النسوي. فبينما تشعر لوكسمبورغ، من ناحية، بالقلق من أن السعي الى إنهاء الشوفينية الذكورية في الحركة يمكن أن يهز التنظيم الثوري، فانها كانت، من ناحية ثانية، تتحدث عن الكفاح من أجل النساء منذ عام 1902. وبحلول عامي 1910 ـ 1911 وإعلان اليوم العالمي للنساء (الثامن من آذار) من جانب رفيقتها كلارا زيتكين، كانت حركة النساء العاملات الاشتراكيات قد تطورت على نحو هائل. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، واتخذت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية موقف الدعم للشوفينية الألمانية، أصبحت حركة النساء المركز القوي للحركة المناهضة للحرب. وتستنتج دوناييفسكايا أنه "مرة أخرى امتزج كل شيء بالثورة البروليتارية، ولكن المرأة كقوة ثورية، كشفت في ما بعد، وعلى الدوام، عن حضورها". وكان الأمر على هذا النحو لأنه كانت هناك "مرحلة جديدة من النسوية"، وكانت تنتقل "من التركيز على حقوق النساء العاملات الى مقاومة النظام الراسمالي بكليته".

وعلى أية حال فان رايا دوناييفسكايا كانت على حق في تأكيدها على أن روزا لوكسمبورغ لم يكن لديها بعد نسوي حسب، وإنما يعتبر هذا البعد أساسياً في فهم لوكسمبورغ وما الذي كانت الثورة تعنيه بالنسبة لها. غير أن التعمق في دراسة هذه المسألة يدفع الباحث الى محاولة فهم جميع أبعاد لوكسمبورغ. وبالتالي فانه لا يمكن فصل بعد لوكسمبورغ النسوي عن تطورها النظري، وجدالاتها مع الرفاق والخصوم، وثقتها بنفسها، واعتدادها بقدراتها الاقتصادية والنظرية، وتوقها الى الثورة، وتصميمها على تغيير العالم.

والحق إن إحدى النواحي الأكثر أهمية في تراث لوكسمبورغ تتمثل في موقفها المميز في ما يرتبط بالعلاقة بين العفوية والتنظيم. وكما أشارت دوناييفسكايا أيضاً فان هذه التطورات كانت غائبة في سيرة الحياة التي كتبها نيتيل، والتي حمل فصلها المكرس لسنوات 1906 ـ 1909 عنوان "سنوات الضياع". وتعلق أدريان ريتش على نقد نيتيل على النحو التالي: "مايزال معظم كتّاب سير النساء يخفقون في إدراك أن العلاقة الرئيسية للمرأة يمكن أن تكون تجاه عملها، حتى عندما يأتي العشاق ويذهبون".

تحقيق الذات

وتشكل حياة لوكسمبورغ بأسرها تحدياً واعياً وقوياً للمشاعر والمواقف التي تحاول إقصاء المرأة أو الحد من طاقاتها. وقد ارتبط هذا بالعملية المؤلمة لتحقيق الذات حيث أنهت علاقتها الحميمة مع الثوري البولندي ليو جوغيشيز الذي ظل رفيقها وحبيبها منذ عام 1890 وخلال سبعة عشر عاماً، وظل صديقاً حتى آخر حياتها.

وقد لاحظت كلارا زيتكين أن جوغيشيز "كان واحداً من تلك الشخصيات الذكورية التي كان بوسعها التسامح مع شخصية نسائية عظيمة". ووصفت المفكرة الألمانية هنّا أردنت جوغيشيز، المعروف بقابلياته التنظيمية الثورية وقدراته الفذة في العمل السري، باعتباره "شخصية رائعة بين الثوريين المحترفين" يجمع بين الرجولة والعقل التحليلي الدقيق والالتزام بالقيم. وتخبرنا أردنت بأنه لم يكن هناك سوى القليل من الرجال ممن كانت لوكسمبورغ تحترمهم. و"كان جوغيشيز يقف على رأس قائمة محدودة يمكن أن نميز فيها، على نحو جلي، إسمي لينين وفرانز مهرنغ. كان، بالتاكيد، رجل أفعال ومشاعر، وكان يعرف كيف يعمل وكيف يعاني". وكانت حميمية لوكسمبورغ العميقة، والحادة أحياناً، مع جوغيشيز، تتواصل وسط كل الضغوط التي تفرضها شخصيتان قويتان، وكذلك الظروف المتأرجحة، الصعبة غالباً، للكفاح الثوري في الفترة من 1892 حتى 1907. وعندما انتهت العلاقة، أخيراً، على نحو عاصف، وليس من دون إحساس بالخسارة لكليهما، احتفظت لوكسمبورغ بعلاقة عمل رفاقية تجسد مساواتها معه في النشاط السياسي.

وتؤكد دوناييفسكايا على أن "لوكسمبورغ كانت بحاجة الى الحرية والاستقلالية ... وقد ظهرت أعظم إنجازاتها الفكرية بعد انتهاء علاقتها مع جوغيشيز"، حيث كانت بوادر الانفصال بينهما قد تجلت بعد فترة قصيرة من انغمارها في ثورة 1905. ومن بالغ الدلالة أن لوكسمبورغ نفسها قالت ذات مرة "إنني متمسكة بفكرة أن شخصية المرأة لا تظهر نفسها عندما يبدأ الحب، وإنما عندما ينتهي".

وقد يتساءل المرء، وهو يسعى الى تقييم الشخصية الفذة لهذه الثورية والمنظّرة الماركسية اللامعة: هل ساعد كون روزا لوكسمبورغ امرأة على خلق توجه ماركسي مفعم بخصائص غالباً ما كانت بعيدة عن متناول نظرائها الرجال ؟ كانت "غريبة" وأصبحت قوة فعالة في وسط يهيمن عليه الرجال في الدوائر الداخلية لحركة العمال اليسارية الألمانية والبولندية والروسية، الأمر الذي ربما كان قد ساعدها على تحقيق علاقات لم يتوفر لآخرين تحقيقها على النحو الذي تيسر للوكسمبورغ.

لقد برهنت على أنها محللة سياسية بارعة، ومنظرة اقتصادية رائدة، وكاتبة ممتازة، ومعلمة ملهمة، وخطيبة جذابة، وقائدة ثورية جسدت الشجاعة وعمق البصيرة. وفي كل هذا جاءت بشيء خاص، مختلف، فحلّقت مثل نسر، كما عبّر لينين.

  كتب بتأريخ :  الخميس 05-03-2009     عدد القراء :  5847       عدد التعليقات : 0