الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
البنت , الأب , الشرق , الحُب !
بقلم : سامي العامري
العودة الى صفحة المقالات

علاقتي بوالدتي هي علاقة صداقة حتى أنني لا أناديها بـ : أمي او يا أمي او ما شابه وإنما أناديها باسمها.
حينما أنهيتُ الإمتحانات النهائية للصفّ الخامس الإعدادي وخرجتُ من المدرسة , هرعتُ الى أمي , قلتُ لها : إنتهتْ المحنة أخيراً !
هاتي بعضَ النقود ...
كنتُ قبل هذا عرفتُ البيرة العراقية المثلَّجة المنعشة وأعرف أن بغداد ضاجة بالحانات , بالبارات ففكَّرتُ بإحدى حانات أبي نؤاس لكونها تطل على دجلة ...
نزلتُ من الباص وسرتُ متلهِّفاً ,
مشيتُ أولاً وسط طريقٍ معشبٍ حيث كان الجسر ورائي :

أجتازُ حقولاً مشمسةً
ورياحاً تنبضُ كالسيلْ
وتحلِّقُ فوقي سبعةُ غربانٍ
او سبعُ دقائقَ من زمن الليلْ !

أنتظرُ النادل , أنظرُ الى طاولتي , آهِ إنها كالصحراء !
ضربتُ عليها بقبضتي , أتى مسرعاً تسبقهُ ابتسامتهُ

أمسكتُ الزجاجة , حاورتها قليلاً ثم ارتشفتها في عشر دقائق وبعدها اعتصرتُها بكلتا يديّ وأنا أفكر ربما هناك قطرة فيها ما تزال مختبئة في القاع !
ثم طلبتُ الثانية ...
وهناك من النافذة رأيتُ رجلاً كهلاً يقترب ليدلفَ الحانة ويتكلم مع صاحبها الذي أعطاه كيساً , وكانت أمام الباب فتاة شابة بانتظاره وحين خرج أخذتْ ذراعهُ وغابا .
ناديتُ على النادل , سألتهُ متعجِّباً : أعاشقان وبينهما هذا الفارق في السن !؟
أجاب : لا , ولكنه أبوها .
سألتُ : وما الذي أعطيتموه ؟
قال : زادَه اليومي !
لوحة فاخرة كأنها واحدة من ( بغداديات ) جواد سليم !
دَبَّ الدبيب بصحبة طعام شهي , خرجتُ أغنّي وأرمي بالحصى الصغيرة على أمواج دجلة علّها تصحو !
علّها تصحو فأبثُّها ما في الجَّنان .
هذا ما تذكرتهُ الآن ...
نساؤنا أكثر بهاءاً بإصرارهنَّ على إبعاد معول التقاليد والقيم الشائهة عن أرضهن البكر رغم أنف السعالي المتربصة , رغم أنف العفاريت الميدانية , رغم أنف التأريخ الذي اضطهد المرأة وحاول استنفادها واضطهدَ الرجلَ بأنْ جعلهُ يفقد صوابَهُ فيظنُّ أنه وحدَهُ السيد القَرْم ...
وعن الفتاة التي أخذتْ بذراع أبيها وسارت معه كصديقة له أقول إذا خاطبَ الرجل أمَّهُ بلغة يشوبُها حَنينٍ من أرض البعاد , أرض المغترَب فاختلجَ كيانُهُ ورقَّ فبكى فهذا لا يعني بأية حال أنَّ الحنين وقف على الأم وأن الأب منسيٌّ .
الأب هو الآخر مجروح بما يكفي , ملغيٌّ بما يكفي !
فالؤد في التأريخ لم يقتصر على المرأة فقط .
رأيتُ الكثير من الكاتبات وهنَّ يُحاكين الرجل في مخاطبتهِ لأُمِّهِ غير أنَّ الأب في أغلب الثقافات له منزلةٌ كبيرة في وجدان ابنتهِ ...
وأخال أن هذه اللغة , لغة الحنين للأب هي ينابيع متفجرة في قلب البنت وهي تسافر في التيه !
ولكن البنت كثيراً ما تمارس حنينها لأبيها كإسقاط على أمها...
انا كقاريء تهزني مع ذلك لغة الحنين الشجية الساحرة المنطلقة من أعماق البنت في المغترَب تجاه أبيها أكثر وأعمق مما لو كانت تجاه أمِّها .
هذه ليست كلماتي وإنما كلمات الحياة , كلمات الطبيعة , كلمات الفطرة الصافية ...
إختلفتُ مع رجل ألماني في الطريق قبل سنوات طويلة فنطقَ بعبارة لم أحتملها فدفعتُهُ بقوة وإذا بفتاة تمسك بي من رقبتي وهي تصيح : إتركْهُ وإلاّ ...
كانت ابنتهُ !
وبالمقابل فإنَّ إحدى العاملات في الشركة معي كان يسعدها أن تعرِّفني على أبيها الذي كان يأتي أحياناً لزيارتها وتطيل في إظهار مناقبهِ أمامي !
عدتُ من الشرق قبل شهر بعد أن بقيتُ فيه أقلَّ من شهر !
أسألُ ما الذي تغيَّر بعد هذه السنوات الطوال ؟
يأتي الجواب : النساء وحدهنَّ اللواتي تغيرنَ قليلاً او كثيراً !
أنا لا تهمني المواصلات والعمارات بشكل خاص على أهميتها وإنما الإنسان ...
حينما تسألُ إنساناً المانياً مثقفاً زارَ عدة بلدان , رجلاً كان أم إمرأة عن رأيه بهذا البلد او ذاك او هذه المدينة التي زارها او تلك فإنه يجيب :
البلد , أيُّ بلدٍ هو ناسُهُ .
وأعتقد أنها صحيحة تماماً ...
قالت وهي تحنو على شوقي وقلقي الأثير : نعم صحيحة !
دروب تبعثرها الريح كأثواب الأفاعي ,
الطواف حول قلعة كأنها تاج ترجَّلَ عن هام الهواء .
دخان السيجارة الواحدة يتقلب بين رئتينا
فيما الشفاه مرافيء للقُبَلات .
وافترقنا !
كلٌّ أخذَ طريقهُ عائداً الى صومعتهِ في أعماق نهرٍ دافيء ,
هي الى دجلة
وأنا الى الراين ,
كان هذا قبل شهر :

بين ذراعيَّ تمرقُ موجاتُ عطرٍ كسربِ
بين ذراعيَّ يمرقُ دربُكِ في إثرِ دربي
وتمرُّ القطاراتُ مثلَ الشرايينِ
تحملُ للغرباء هدايا
والمحطاتُ قلبي !


(*) فصل من كتاب قصصي نثري شعري بعنوان : النهرُ الأول قبل الميلاد .
- أعرق الحضارات هي تلك التي أقامها الإنسان على ضفاف الأنهار ويكفي أن نذكر حضارة وادي الرافدين ووادي النيل حتى نتبيَّن ذلك وأمّا عنوان الكتاب فهو الذي فرضَ نفسهُ او فاض بنفسه ِ !


كولونيا
شباط - 2009

  كتب بتأريخ :  السبت 07-03-2009     عدد القراء :  4783       عدد التعليقات : 0