الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
بغداد أعلنت اليوم عطلة عزاءً بوفاة الإمام الجواد

وفيات الأئمة: التاريخ يقضم حاضرنا!

المقال اشار إلى أن البعض يريد بهذه المناسبات إثارة لا تخدم الحرب على الطائفية والإرهاب، لتكن شأن المذهب لا شأن الدولة.

لابد من ثقافة بناء فالأحزان لا تعمر الأوطان

في الأَول من ذي الحجة قررت محافظة بغداد عطلة رسمية؛ احتفاءً بزيارة الإمام التاسع، عند الإمامية، محمد الجواد (ت 220 هـ)، على أنه قُتل بتدبير الخليفة محمد المعتصم (ت 227 هـ)، بعد أن بويع والده الإمام علي الرِّضا (ت 203) ولياً لعهد عبد الله المأمون (ت 218 هـ)، وقد زوجه الأخير، بعد دخوله بغداد، من ابنته أم الفضل، وكان قد زوج أباه الرضا ابنته الأخرى زينب أم حبيب (اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ابن الأثير، الكامل في التاريخ). يقول الأصفهاني (ت 356 هـ) وهو شخصية شيعية معروفة: «وزوج المأمون ابنته أم الفضل محمد بن علي بن موسى على حِلكة لونه وسواده، ونقلها إليه فلم تزل عنده» (مقاتل الطالبيين)، فأمه كانت نوبية.

ما نحن بصدده ليس الماضي، إنما الحاضر المتلفع عباءته، ويسترجع أهل هذا الزمان حوادثه بتمثيل عجيب، فيوم الزيارة التي استحدثت لها عطلة رسمية، الأحد الماضي، قُتل من الزائرين العشرات، تشعر وأنت تسمع قراء المنابر وحاملي المتفجرات أن منازلة وقعت الآن بين أتباع الإمام وأتباع الخليفة، فالذي يفجر زوار الإمام يُفهم أنه من أعوان الخليفة.

قارئ المنبر قرأ قصة استشهاد الإمام الجواد، في صحن الكاظميين، وقد أُذيع مجلسه من فضائية يدعي صاحبها أنه يؤمن بـفسيفساء المجتمع العراقي، وينصح بالثقافة، ويبكي على الشهداء في خطبه! ما قرأه القارئ كان من كتاب «بحار الأنوار» لمحمد باقر المجلسي (ت 1111هـ)، وهو تاريخ الأئمة الاثني عشر، والكتاب مبني على الرؤية الصفوية وتحشيدها، فمؤلفه كان من أبرز فقهاء تلك الفترة، ومعلوم أنها رؤية لا تصلح لما عبّر عنه صاحبنا بفسيفساء أهل العراق، وما يتعلق ببغداد فتاريخها لا ينفصل عن خلفاء بني العباس، الذين لهم عداوات وصداقات أيضاً مع آل البيت، والشأن سياسي لا عقائدي.

لكن الخليفة عبد الله المأمون، لا يستحق هذا العداء، كان منفتحاً على المذاهب والأديان، وفي عصره ارتقت المناظرات العلمية والأدبية والفقهية، وأكثرَ مِن ترجمة الكتب التي تُعد بوابة المعرفة والتطور الحضاري، وأسند ولاية العهد للإمام علي الرِّضا، ولم يسندها لولده العباس (قتل 223هـ)، الذي ثار على عمه المعتصم فقتله (لاحظوا الموقف)، وأراد وقف تداول الخلافة بين العباسيين، وربما إعادة الشورى، وأن خبر تبديل راية العباسيين السوداء براية العلويين الخضراء أمر مثبت تاريخياً، وهمَ بسب مَن سب العلويين (ابن طيفور، كتاب بغداد).

لكن عند صاحب البحار يتحول المأمون إلى شيطان، وتؤلف قصة قتله للإمام الرِّضا، وقتل المعتصم للإمام الجواد، عن طريق دس السم من قبل زوجته وهي ابنة أخ المعتصم، مع أن كبار علماء الشيعة ينفون قتل المأمون للرِّضا، مثل: محمد بن النعمان المفيد (ت 413 هـ)، وعلي الإربلي (ت 693 هـ) صاحب «كشف الغمة»، ورضي الدين بن طاوس (ت 664 هـ) استبعدوا ذلك (فضل الله، الإمام الرضا تاريخ ودراسة). ناهيك عن ابن واضح اليعقوبي (ت 292 هـ)، المائل للتشّيع، القائل: «وأظهر المأمون عليه جزعاً شديداً» (تاريخ اليعقوبي). أما محمد الجواد، ففي زمن المعتصم لم يُقتل مِن الطَّالبيين سوى اثنين، أحدهما زيدي جارودي المذهب والثاني رفض «لبس السواد وخرقه لما طولب بلسبه» (الأصفهاني، مقاتل الطالبيين)، مع علمنا أن الأصفهاني كان شيعياً ويصعب تجاوز روايته، ومَن لم يأت من الطالبيين قتيلاً في كتابه فيكون في ذلك نظر، وكان إلى حداً ما قريباً على تلك الحوادث مِن ناحية الزمن.

لم تبق المسألة مسألة طقوس، تؤدى مِن قِبل طائفة بمعقولية ما يتناسب مع رزانة المذهب وقدسية الدين، إنما صارت عبئا على المذهب نفسه، وتجديداً للكراهيات بأثر رجعي، وليت أنه تاريخ موثق إنما هو تاريخ كُتب لغرض سياسي، فإذا كان مثل العلماء الذين تقدم ذكرهم ينفون قتل المأمون للرضا، فعلام هذه المناحة، وتثوير ما في دواخل النُّفوس ضد كل أثر عباسي؟ ولماذا يؤخذ ما أتى به المجلسي عن الأئمة على أنه الحقيقة، كروايته «والله ما منَّا إلا مقتول شهيد» (بحار الأنوار)؟

هل هناك من فكر بمستوى الجامعات العلمي؟ كي يفرغها لأيام لمهام دينية مذهبية؟

لا أثبت أو أنفي مَن قُتل ومَن لم يُقتل، بقدر ما أتفهم طبيعة السلطة الاستبدادية، حسب ذلك الزَّمن، لديها البيعة أمر إلهي، سواء كان الحاكم عباسياً أو فاطمياً أو زيدياً أو إمامياً، وإن دولا اتفقت في تولي آل البيت وتواجهت بحروب كداحس والغبراء، مثال البويهية والحمدانية والفاطمية. إنه الحُكم! ولو اطلعنا على أثبت مصدر في هذا الشأن، وهو «مقاتل الطالبيين»، سنجد فيه خلفاء وثائرين، والغالب منهم من الزيدية والإسماعيلية أو ثائرين مستقلين، إلا أنهم طالبيو النسب. ولا يغيب عن البال أن ولداً لعلي بن أبي طالب، اسمه عبيد الله (67 هـ)، قتله المختار الثقفي (قُتل 67 هـ)، لأنه صار إلى مصعب بن الزُّبير (قُتل 71 هـ). وهو شقيق أبي بكر بن علي (لاحظوا الاسم) الذي قُتل مع أخيه الحسين (61 هـ). ذَكره الأصفهاني في مقاتله والطبري في تاريخه والمسعودي في مروجه.

كيف سيتعايش الناس إذا كان الاحتكام للماضي، المنتقى بأمزجة السياسة، طعاماً وشراباً؟ لن ينتهي النزاع حتى ولو قُسمت البلدان طائفياً، مثلما يسعى الساعون. لسنا ضد طقوس الناس، على مناحلهم ومللهم، لكن ألا تُقام لإحياء الثارات، فإذا ذُكر المأمون والمعتصم لقتلهما للرضا والجواد، مع عدم الاتفاق على الرواية، وأن كلَّ إمام مقتول له ثأر، ويُقدم بمشهد مؤثر يُسخر فيه الشعر والخطابة وحركات المؤدي المسرحية، فماذا يُزرع للأجيال غير أنياب الكراهية؟

إنه مشهد مفزع، تختلط فيه الدماء بروايات الماضي، فلمصلحة مَن تقرر بغداد عطلة رسمية لزيارة الجواد في ظل الظرف الخطير، بينما تمنع تظاهرة تطالب بالحقوق بذريعة الوضع الأمني؟ هناك ما يُبيت للنَّاس في مخدع السياسة، بل لا يستبعد أن هناك مَن تسره أشلاء الضحايا في مواكب العزاء، حتى بتنا لا نميز بين الحامي والحرامي! ما يؤلم، أن هذه الطقوس لا يُراد لها البقاء في مجالها الشعبي، مثلما كانت، إنما دخلت في عصب الدولة، ومَن يرفضها يصبح عدواً قاتل الجواد. إن عدم تنبيه الناس لخطورة هذه التجمعات وتشجيعها يُعد بحد ذاته تسهيلا للقتلة.

أقول: متى تنقى السرائر إذا ظل التاريخ يطاردنا بموجعاته لا مسراته، بين أئمة وخلفاء اختلفوا واتفقوا، إنها ندب الماضيات، و«لنا بدفن الماضيات صفاء»! في شأن المأمون تحدث معي صاحب العمامة السوداء محمد بحر العلوم للكتابة في مجلة المعهد الإسلامي (أواسط التسعينيات)، وقررت الكتابة عن المأمون، فاختصر رأيه فيه قائلا: «إنه عالم». نعم كان المأمون عالماً ومثقفاً!

  كتب بتأريخ :  الخميس 25-09-2014     عدد القراء :  3969       عدد التعليقات : 0