الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
هوس الاستحواذ !
بقلم : رضا الظاهر
العودة الى صفحة المقالات

بينما بلغ الصراع بين الأطراف السياسية بشأن قانون الانتخابات ذروته، ألقى الواقع مزيداً من الأضواء على حقائق مريرة قائمة، فضلاً عن حقائق جديدة. ولعل أسطع وأخطر درس يمكن للمرء أن يستقيه من تجربة الشهر الأخير، خصوصاً، يتمثل في أن التجاذبات بين النخب السياسية المتنفذة كشفت، من بين مآسٍ أخرى، عن زيف ادعادات هذه القوى التي انفضح، على نحو غير مسبوق ومثير للأسى وخيبة الأمل، تشبثها بمنهجية الاستحواذ، وتهافتها على السلطة والامتيازات على حساب بؤس الملايين ومعاناتهم المريرة وأزمة البلاد المستعصية.
وفي غضون ذلك يتعمق يقين أفواج متزايدة من المحرومين ومغيّبي الارادة ممن منحوا أصواتهم لقوى خذلتهم من أن البرامج والتوجهات كانت محض وعود عجز "المقررون" عن الوفاء بها.
ومما يلفت الانتباه أن هذه القوى تمارس لعبة خطرة تحاول من خلالها إشاعة الانشغال بقضايا ثانوية باعتبارها قضايا حاسمة على حساب القضايا الرئيسية. وبوسع المرء أن يقدر حجم الانشغال بقضية نقض نائب رئيس الجمهورية لقانون الانتخابات، بغض النظر عن منطلقات النقض وغاياته وأهميته وعدالة وواقعية ما ورد فيه، ناهيكم عن ارتباطه الجوهري بالصراع السياسي، مقابل حجم الانشغال بقضايا كبرى متعلقة، على سبيل المثال، بالسيادة الوطنية ووجهة التطور الاجتماعي للبلاد. وهكذا حال سرقة أصوات الناخبين، وهي فضيحة كبرى تمر، شأن شقيقات لها، مرور الكرام، ودون أن يهزّ هولها وعواقبها الوخيمة "سياسيين" توافقوا على التواطؤ على الامتيازات.
وفي السياق ذاته، وعلى نحو منسجم مع هذا التوجه، بوسعنا أن نرى النشاط الاعلامي المتصاعد، وهو يسهم في طمس الحقائق، وإغراق الناس بالقضايا الآنية، وصرف أنظارهم عن القضايا الكبرى. ويجري كل هذا التحرك المحموم، السياسي والاعلامي، في إطار نزعة التسييس، وهي إحدى العواقب المقيتة لمنهجية المحاصصات.
وفي ظل هذه اللوحة السياسية المعقدة لا غرابة في أن تمارس أطراف معينة أساليب ضغوط وتهديدات وابتزاز لجني مكاسب آنية ضيقة. ولا غرابة، أيضاً، في أن تتسم مواقف أهل هذه المكاسب الملتبسة باحتمالات انقلابهم على مواقفهم اذا ما دعت حاجاتهم.
ومن الطبيعي أن تبحث قوى الاستحواذ عن قوى "أخرى" تؤدي دور "الديكور" السياسي الذي يوحي باستعداد قوى الاستحواذ لاشراك "الآخرين" انطلاقاً من "إدراك" ضرورة قيام وحدة وطنية، وهم، في حقيقة الأمر، يستخفّون بحقائق الواقع، ويسعون الى تهميش وإقصاء الآخرين، وبينهم قوى حية في تيار المجتمع والحياة، بينما يلجأون الى إشاعة أجواء الارتياب والتعصب والتعالي وانتقائية التأويل والتصريحات المراوغة وحمّالة الأوجه.
وقد بات جلياً اليوم أن نهج قوى المستحوذين يستند الى المصلحة الذاتية لا الى مصلحة الشعب، والى الطائفة لا الى المواطنة، والى المحسوبية لا الى الكفاءة، والى التخندق خلف متاريس الاستئثار لا الى الظهور في فضاء الشفافية، والى الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة لا الى الاعتراف بتعددية الرأي والنقد والحوار المنفتح وتفاعل الأفكار.
وأهل الاستحواذ هؤلاء مستعدون لفعل كل شيء من أجل احتلال مقاعدهم في البرلمان والحكومة وإبقاء السلطة بأيديهم. وهم في غاية الخشية من الديمقراطية الحقيقية التي تهددهم في امتيازاتهم.
وقد تجلى هذا الاستحواذ، وهو ثقافة راسخة الجذور في عقول وسلوك اللاهثين وراء السلطة، على نحو أسطع من جانب عدد من الكيانات "الكبيرة" التي لا تبالي إلا بالهيمنة على كل المقاعد لحرمان "الآخرين" من أي مقعد. أما الذرائع التي يبررون بها هذا السلوك فتتمثل في عدم السماح لتشتيت وتبديد قوى الشعب.
غير أن اختبار الحياة السياسية في بلادنا برهن على أن الأحزاب الطائفية غير قادرة، موضوعياً، على أن تنهج نهجاً غير طائفي، وبالتالي غير قادرة على حل أزمة البلاد. وتؤكد حقائق الواقع واختباراته، مرة تلو أخرى، على أن التيار الديمقراطي الحقيقي هو القادر، حقاً، على إخراج البلاد من أزمتها، ووضعها على مسار التطور الاجتماعي، المفضي الى الدولة الديمقراطية المنشودة.
ولا ريب أن هذه الحقيقة الساطعة، والشاقة أيضاً، في لحظة الراهن، تستدعي، من بين أمور أخرى، تعزيز الدور السياسي والفكري لهذا التيار في سياق السعي الى تحويله الى حركة اجتماعية أصيلة وفاعلة، عبر البرنامج الوطني الواضح وبديل التغيير الحقيقي، والصلات الحميمة الواسعة مع الناس، واستخدام أساليب الكفاح الملموسة، واستثمار السخط المتعاظم والطاقات الكامنة، والتوجه، بالأساس، الى أولئك الذين لم يحسموا أمرهم وخيارهم، وهم الأغلبية الصامتة. ويفترض هذا، وسواه من المتطلبات والمهمات، أن نعمق ثقتنا بالناس وبأنفسنا، وأن نكون بمستوى المثال السامي والرهان الكبير والتحدي العظيم الذي اخترناه.
* * *
كل قوة متنفذة تتمسك بنزعة الاستحواذ، وتسعى الى إشاعة ثقافة الخنوع، فهذه الثقافة هي التي تشل روح المقاومة والاحتجاج، فتضمن، بالتالي، الامتيازات، وهي جوهر الصراع السياسي والاجتماعي.
يحرّم أهل الاستحواذ على الآخرين ما يحلّلونه لأنفسهم، وغاياتهم محاصرة التنوع الفكري والسياسي في المجتمع، وهم لا يطيقون رأياً آخر يختلف معهم.
أما نحن، فنتطلع ونسعى الى لوحة واقع عراقي تضيء فيها تلاوين الفكر التنويري وتتألق فيها أطياف الأمل ..

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 08-12-2009     عدد القراء :  3535       عدد التعليقات : 0