الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الآلوسي.. جيل تحصن بالثقافة والمدنية

رحل المؤرخ والوثائقي والمثقف الموسوعي العراقي سالم الآلوسي (1925- 2014)، رحل وفي فمه غصة، وهو يرى انهيار الصرح الذي أنشأه جيله من الثقافة والفنون والمدنية. ذلك إذا علمنا أن مشواره الثقافي قد بدأ في الأربعينيات، من القرن الماضي، وقد غلب شغفه في التاريخ والوثائق والشأن الثقافي عن مجال اختصاصه الأكاديمي، الإدارة والاقتصاد (1952). فاض ذلك الشغف إلى الآثار والعمل والكتابة فيها، وبُحسب له ولزملائه تأسيس الأرشيف الوثائقي، بعد أن كانت الدوائر غير ملزمة بحفظ وثائقها.

عندما نرى هذا الانحدار الطائفي ونخره في جسد الثقافة نبكي جيلاً كجيل سالم الآلوسي؛ يوم كان يعاب على المثقف أن يتحمس طائفياً، أو أن يفتش عن فرعية يجعلها أصلاً محل العراق. لا أعلم بشعور الآلوسي وهو ينام ويستيقظ على العراك الطَّائفي، وأية جهة تتحمل حياده! وكيف هو تحمل ما حوله وظل إلى رحيله متفائلاً، وكأن مناماً ينتهي باستيقاظه أو حلم عابر مِن أحلام اليقظة، لا أرى الآلوسي مدركاً ومتيقناً مما حوله، والسبب، حسب ظني، أنه لا يريد لبناء بذل فيه عنفوان شبابه وحدب عليه حتى شيخوخته أن ينهار ولم يبق منه سوى الرماد. ما كان يفكر حتى في الخيال أنه سيسأل إذا خرج مِن داره مِن أي مذهب يكون؟

رحل الآلوسي قلقاً على اسم العراق، ذلك يفسره صدور كتابه تحت عنوان: «اسم العراق» عن المجمع العلمي العراقي (2006)، فما حجم المعاناة التي دفعت باحثاً ومؤرخاً مثل الآلوسي يشغل نفسه في بداهة، مثل عراقة اسم العراق التي لا تحتاج إلى برهان! ولم يصدر صاحبنا كتابه وتحت العنوان المذكور ترفاً، إنما جاء لتوضيح لغط دار حول اسم وكيان هذه البلاد التي ابتلت حتى اختزت. أقولها جاداً هناك مَن اعتدى على هذه البلاد غزواً وتغييباً لاسمها وجغرافيتها، التي تمتد عبر التّاريخ مِن آثور الموصل وحتى عبادان، وليكن نظامها فيدرالياً أو لا مركزياً لكن مِن الخزي أن يُقال العراق مختلق اسماً وكياناً، مع أن الكرد قبل غيرهم هم الذين صوتوا ألا يُقطع الموصل رأس العراق، قبل التفريط بها مِن قبل "الجيش الفضائي" بأكثر مِن تسعين عاماً.

كان قلق سالم الألوسي على العراق وبغداد في آن واحد، لذا انشغل في أواخر حياته بالذود عنهما، ونبقى مع كتابه "اسم العراق" فلمَنْ يرى أنه ظهر بعد فتوح العرب المسلمين، يحيله الآلوسي إلى ما جاء عنه في الشعر ما قبل الإسلام، مثل شاعر الحكمة والسلم المخضرم زهير بن أبي سلمى (ت 13 هـ)، قال في معلقته: "فَتُغللْ لك ما تُغِل لأهْلها/ قُرىً بالعراقِ من قَفيزٍ ودَرْهم"(الزوزني، شرح المعلقات السبع). ويحيله إلى المتلمس جرير بن عبد المسيح (ت 580 ميلادية): "أُمي شآميَّةً إذ لا عِراق لنَا/ قوماً نوَدُّهم إذْ قَومُنا شُوسُ/ آليتُ حَبَّ العِراق الدَّهر أطعَمه/ والحبُّ يَأكله في القَرية السُّوس"، وللمتلَّمس أيضاً: "إن الحييَّـة ذِكـرها لــــمْ يـَنْفَـذِ/ أو كيفَ يُغني عنها طُولُ تَوَدُّدِ/ إن العِراق وأَهله كانوا الهوى/ فإذا نَـأى بِـي ودُّهم فَليَبعـــدُ". وقال المُنَخَّل اليَشكري(ت 597 ميلادية: "إِن كُنْتِ عَاذِلَتي فَسِيري/ نَحو العِـراقِ ولا تَحُـوري".

كم خاض المؤرخون والرواة، بأحوال أصل الاسم، ومازال محصوراً بين نحته العربي وأصله الفارسي، بينما ظلت تسميته القديمة بعيدة عن التناول! فقد ذهب طه باقر (ت 1984) إلى القول: «مشتق من كلمة تعني المستوطن، ولفظها أوروك… وأن أول استعمال لكلمة عراق ورد في العهد الكيشي، في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وجاء فيها اسم إقليم على هيئة (إيريقا)» (الآلوسي، اسم العراق). لماذا يحار بأصل اسم العراق، والأرض كان اسمها (أوروك)، أو(إيريقا)، وليس هناك مانع من تبدل: الهمزة إلى عين، والقاف إلى كاف!

هذا شيء مِن قلق "سالم الآلوسي" على اسم عاش ومات في ظله، وهو يراه أصبح خلف الفرعيات مِن مذاهب وعشائر، وآخر ما وصلني بإهدائه، الذي أظهر فيه تفاؤله، كتابه "اسم بغداد في العصور التاريخية". جاء الكتابان في أواخر العمر، وفي زمن أخذ فيه يُشك بوجود بلاد اسمها العِراق، ومدينة اسمها بغداد. لقد حاول الآلوسي وجيله، بالثَّقافة لا بغيرها، تأسيس مَدنية تليق بهذه البلاد وتاريخها، لكنَّ نزق السِّياسة كان أقوى وشرّ العنصرية الطَّائفية أشد وأعظم!

الاتحاد الاماراتية

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 23-12-2014     عدد القراء :  3783       عدد التعليقات : 0