الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عاصمة الحرية پاريس تهتز لجريمة الجهاديين

   عندما سمعت أمس بتلك المجزرة الإرهابية في پاريس، عممت هذا الإيميل على أصدقائي ونشرته على الفيسبوك، والذي كتبت فيه النص التالي، مع قليل من التصرف:

   پاريس شهدت اليوم مجزرة قام بها (جهاديون). لم تقتل هذه العملية بشرا أبرياء وحسب، بل هي محاولة لقتل الحرية. إني أشعر بغضب كبير. صحيح إن هذه العملية الإرهابية لا تقاس، من حيث الكمّ، بضحايا الإرهاب في العراق، أو سوريا، أو .... لكني أشعر بالغضب والحزن والهلع بشكل كبير، لأن فرنسا تمثل قلب العالم الحر، هذا العالم الملتزم بقيمة الحرية، كقيمة إنسانية عليا، اعتمدتها الحداثة التي هي أرقى من شرائع كل الأديان، وبمبادئ حقوق الإنسان، ومبادئ وقيم الديمقراطية، لاسيما مبدأ فصل الدين عن السياسة، بل عن عموم الشأن العام، كما تعتمد بالذات العلمانية الفرنسية. الجريمة الإرهابية التي ارتكبها الجهاديون الثلاثة يوم أمس في پاريس تثير الغضب والاشمئزاز والخوف، لا أعني خوف الجبناء، بل خوف المعتزين بما أنتجته الحداثة.

   هذا كان ما كتبته وعممته أمس، مع غضافة كلمة أو كلمتين. ومع هذا أرى الكلمات قاصرة عن التعبير، وختمت كلماتي القصيرة والقاصرة بعبارة «تعزياتي لكل أحرار العالم».

   قلت إن الجريمة من حيث الكمّ لا تقاس بما ارتُكِب حتى الآن بحق العراقيين على يد الإرهاب بالدرجة الأولى، ولكن أيضا على أيدي الميليشيات، ومن قبل على يد صدام، ولكن مجزرة پاريس تكتسب أهميتها وكارثيتها من حيث النوع. لأننا إذا كان قدرنا أنّا ورثنا ثقافة القتل المقدس لأربعة عشر قرنا، فلماذا ننقل كوارثنا إلى العالم الحر؟ هذا العالم الذي – صحيح - لم يكن دائما حرا، ولم يكن دائما متسالما ومسالما، ولم يكن دائما بمنأى عن الحروب المقدسة، والقتل المقدس، والعداوة المقدسة، والبغضاء المقدسة. لكنه تعلم من تجربته المريرة والقاتلة، وأنتج ما هو مكسب ليس له، أي للغرب وعموم العالم الحر، بل لكل المجتمع الإنساني على كوكبنا الأرضي. هو الذي أنتج الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل، والسلام، والفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والشأن العام. دون أن يعني ذلك أنه تحول إلى عالم ملائكة، ولم يتخلص كليا من ثمة ازدواجية أحيانا.

   شارلي أبدو Charlie Hebdo ورفاقه التسعة والشرطيان، كانوا شهداء الحرية، بما تعنيه الكلمة، ولو إني أتجنب استخدام المصطلحات الميتافيزيقية مثل الشهيد والشهداء في الشأن السياسي، ولا حتى الاجتماعي، لكن أعبر عن ذلك هنا تعبيرا مجازيا، وربما عرفانيا، وأعني بالعرفان هنا عشق المعاني الإنسانية الجميلة، وعلى رأسها الحرية.

   بقطع النظر عمن كان متفقا مع طريقة شارلي أبدو في التهكم بالأديان، عبر رسوماته الكاريكاتيرية، فالمؤمنون بالحرية كلهم قالوا، ما لا نراه مناسبا، لا نملك أن نمنع مزاولة الحرية فيه. شهيد الحرية الپاريسي رسم الكاريكاتيرات بحق المسيحية والڤ-;-اتيكان والپاپا، فلم تثر ثائرة الڤ-;-اتيكان ولا ثائرة المؤمنين من الكاثوليكيين، ورسم متهكما باليهودية، ولم تثر ثائرة اليهود، ولم يقل أحد إنه لون من ألوان معاداة السامية. إلا الإسلام والمسلمون. ولا أعمم، فأعلم أن من المسلمين العقلاء والمسالمين والرافضين للإرهاب بكل ألوانه، لكن هناك حتى يومنا هذا مشكلة في ترويض المسلمين وترويض الإسلام على احترام مبدأ الحرية حق الاحترام، حرية العقيدة، وحرية التعبير، وحرية الارتداد، وحرية الكفر، وحرية الإيمان المغاير. يجري التعرض للمسيح، ولموسى، ويجري التعرض حتى للخالق، ولا أحد يقوم بثورة هيستيرية جنونية فيحرق، ويقتل، ويذبح، ويسبي، ويرعد، ويزبد، إلا ممن ينتمون إلى هذا الدين.

   ولكن لا بد من الإصرار على ترويض هذا القسم من العالم، حتى يخضع لمبدأ احترام الحرية، والمساواة، والسلام. وقد قالها شهيد الحرية الپاريسي شارلي أبدو، إذ كان قد كتب قبل أن يقتل مع رفاقه، وكأنه يتنبأ بمصيره الكارثي، فقال: «أنا ليس لي زوجة، ولا سيارة، ولا نفوذ، وأفضل أن أموت قائما، على أن أركع على ركبتَيّ»، ليعبر عن كونه لن يتنازل عن مزاولة الحرية، حتى لو كلفه ذلك حياته.

   متى نملك شجاعة مزالة الحرية، ليقول المرتد، إني لم أعد مسلما، وتمزق المرأة حجابها، عندما لم تعد مقتنعة به، وتتخذ الأخت صديقا لها، تماما كما يفعل أخوها، سواء بعقد أو بدون عقد، وليفصح البهائيون عن دينهم، وليعيش المسيحي والإيزيدي والصابئي والملحد واللاديني، حقيقة، وليس شكلا، وبكل ما للكلمة من معنى، المساواة الحقة بلا أدنى استثناء ومئة بالمئة، مع المسلم في بلدان الأكثرية المسلمة، وليقول من نشأ شيعيا لم أعد أؤمن بالإمامة، ولا بالعصمة، ولا بالمهدي، ولا بالشعائر، ويقول الذي نشأ سنيا لم أعد أؤمن بعدالة الصحابة والخلفاء وزوجات النبي، وليرسم من يشاء ما يشاء من كاريكاتير، ويعبّر كل عن كامل عقيدته، وكامل قناعاته، من غير أن يخاف، ولا يجامل، ولا يتخفى، ولا يمارس التقية، ولا يضطر للهجرة، إذا استطاع، ليمارس حريته فيما يعتقد، بعيدا عن سيف الذباحين، أو كاتمات الميليشيات، أو التسقيط الاجتماعي.

   مجزرة پاريس، ليست بقضية تهم الأورپيين وحدهم، بل هي قضية كل الأحرار، لاسيما أولئك المقموعين والمقموعات في أوطانهم، ليس بالضرورة من قبل نظام ديكتاتوري قمعي، بل مقموعين من أسرهم، من آبائهم وأمهاتهم، من مجتمعهم، من عشائرهم، من معمميهم، ومن كل الكفار، الذين كفروا بالحرية والمحبة والمساواة والسلام وحقوق الإنسان والحداثة، وإن قال بعضهم، آمنا بها، وما هم بمؤمنين، إنما يخدعون به الناس، وما يخدعون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون.

   المجد لشهداء الحرية في پاريس، وفي العراق، وأذكر هنا الفقيد الحبيب كامل شياع، ولشهداء الحرية في كل مكان.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 09-01-2015     عدد القراء :  3822       عدد التعليقات : 0