العراق، بلد كلكامش و الشعراء المجّان و ابي حنيفة و المعتزلة، ليس من البلدان المتعصبة دينيا. في شهر رمضان، وجدت هذه اللوحة معلقة على احد مطاعم بغداد: "احتراما لشعائر رمضان المبارك هذا المطعم مغلق. يرجى الدخول من الباب الخلفية." كنت اختصر الطريق بالمرور عبر مسجد الميدان المجاور للمبغى العام. فأجده – أي المسجد - خاليا . كان الاتقياء يصلون في بيوتهم.
مما اوحى لأحد الظرفاء بهذا القول مؤخرا: " كنا في ايام زمان نصلي في البيت و نشرب الشراب في الخارج.
في هذه الايام اصبحنا نصلي في الخارج و نشرب الشراب في البيت!"
كان الزواج المختلط شائعا و كذا الانتقال من دين لدين. تزوج اثنان من اقاربي بيهوديات. و كذا كان السكن المختلط. نشأت بجوار عائلة مسيحية. و كان والدي المعمم يعلم اولادهم القرآن الكريم ليقووا لغتهم العربية. و تلقى اخي احسان دراستة في مدرسة الآباء اليسوعيين . و كانت مدرستي الاولى مدرسة يهودية في الاعظمية تركتها بعد ان مللت من درس التوراة. و دأبت والدتي على حثنا بالزواج بأوربيات. طرحوا على تلامذة الاعدادية استبيانا لأغراض بحث اجتماعي تضمن سوألا عن المذهب. ثار الطلبة على السوآل و اضربوا عن الجواب.
جائت الانقلابات العسكرية و استلم عبد الكريم قاسم الحكم. ركبت الطائرة الى بيروت. استقبلني ضابط المطار بهذا القول: انت جاي من العراق. قل لي خيي، هذا عبد الكريم قاسم شو مذهبه؟" فكرت قليلا ثم اجبته: " ممكن تقول اشتراكي ديمقراطي." قال لا خيي مش هيك. اقصد سني او شيعي؟" قلت : " و الله ما اعرف." نظر في وجهي مستغربا. كنا في العراق نقصد بالمذهب ، مذهبك السياسي. شيوعي ، قومي، لبرالي، وهكذا.
مرت ايام و ذهبت لالقاء محاضرة في جامعة اكستر. ذكرت خلالها عبد الكريم قاسم. سألني احدهم: " شو كان مذهبه؟" قلت آسف لا ادري. رفع آخر يده و تبرع بالجواب. " كان ابوه سني و امه شيعية." التفت و سألته " شكرا. و لكن ممكن تقول لي من اي بلد انت؟" اجابني " انا فلسطيني." قلت " يا سبحان الله! انتم يا الشوام تفكرون بهذي الامور. نحن في العراق لا نفكر بها!"
واستلم البعث الحكم بإنقلاب دموي آخر. و بدأت المشاعر الطائفية تتململ. التقيت بسفيرهم في لندن. القى علي هذا السوآل. " ابو نايل، صاحبك هذا دائما معك. اسماعيل البنا، شيعي او سني؟" قلت " و الله ما اعرف". استغرب من جوابي. و لكن انا ايضا استغربت. فأبو سامي، اسماعيل البنا. صديقي منذ خمسين سنة وهو اعز صديق لدي في لندن و قلما مر اسبوع دون ان نلتقي. و انا الى الآن لا اعرف مذهبه قط!
ستعجب يا سيدي القاريء و ربما تشك بصحة روايتي. و لكن الرجل هنا في لندن و سيقرأ هذه المقالة. هكذا تربيت و نشأت في ايام خير العراق، ايام العهد الملكي ، رعى الله ذكرياتها و تركاتها . وجاء الامريكان يجرون ورائهم الاحزاب الدينية و مرجعياتها في اطار ديمقراطية عليلة جاهلة وقلبت كل شيء.
كانت ايام خير يا عمي و فاتت. لم نرعها حقها. و ندمنا على فواتها