الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الرشوة في العراق.. قراءة مختلفة
بقلم : موسى فرج
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

     الرشوة : فعل شائن حرّمه الدين وجرّمه القانون وهي في العراق غيرها في الدول الأخرى ليس من حيث سعة الانتشار فقط بل من حيث النوع أيضاً ونسبة كبيرة منها قد تخرج عن وصف الرشوة الى ما هو اكثر بشاعة ..

   الموقف من الرشوة :

   موقف الدين : قال تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحاكم لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)

   وقال عنها النبي (ص) : (لعن الله الراشي والمرتشي)..

   موقف القانون : إعتبرها القانون جريمة مخلة بالشرف .. وعاقب عليها بالحبس مدة تصل الى 10 سنوات مع مصادرتها.. طبقاً لقانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 (النافذ): .

   1. الرشوة من الجرائم المخلة بالشرف (المادة :21). .

   2 . يعاقب الموظف المرتشي بالسجن مدة لا تزيد عن 10سنوات (المادة: 307 ). .

   3 . يعاقب الراشي بنفس عقوبة المرتشي (المادة: 310 ). .

   4 . مصادرة الرشوة ( المادة: 314 ).. .

   5 . يعاقب بالحبس أو الغرامة كل من عرض رشوة على موظف أو مكلف بخدمة عامة ولم تقبل منه ( المادة: 313 )..

   موقف الثقافة المجتمعية : النسبة الأعظم من موظفي الدولة بعد عام 2003 ينتمون إلى الأحزاب الدينية أو من مناصري تلك الأحزاب وهم يؤدون الشعائر الدينية بحماس واضح ونادراً ما يخلو مكتب أي منهم من الآيات القرآنية وصور الرموز الدينية..

   والثقافة الشائعة في ظاهرها ثقافة دينية ملتزمه كما أن رواتب منتسبي الدولة بعد 2003 قد تحسنت بشكل ملموس.

   واقع الرشوة في العراق : إذا كان الدين مناهض للرشوة والقانون يجرّمها والثقافة المجتمعية في ظاهرها بالضد منها وكل تلك العوامل مجتمعة تصلح في ظاهر الأمور الى التضييق على وحصر ممارستها بأضيق الحدود .. فهل أن ما يجري يتفق مع هذا ..؟

   60 % من موظفي العراق يتعاطون الرشوة والمواطن يلجأ إليها أربع مرات في السنة.. هذا ما قالته الدراسة التي أعدتها الأمم المتحدة (UNDP) بالتعاون مع وزارة التخطيط وهيئة النزاهة ونشرتها بتاريخ 20 حزيران 2013 ..

   والدراسة تقول : “يضطر 45.8 % من دافعي الرشاوى إلى اللجوء إلى الرشوة لتسريع الإجراءات الإدارية، ويضطر أكثر من الربع (26.6 %) إلى دفع رشاوى للحصول على معاملة أو خدمة أفضل“،..

   وفي دراسة لهيئة النزاهة تحت عنوان : معدلات الرشوة تقفز الى 50 % في العراق وحملة الشهادات الجامعية يتصدرون .. جاء فيها : أن حملة شهادة الدكتوراه يتصدرون دافعي الرشوة في العراق (بمعدل 12,66%).وجاء حملة الماجستير ثانياً (11.11%) والدبلوم العالي (7.32%) والبكالوريوس (7.05%) والإعدادية (5.71%) والمتوسطة (4.45%) والابتدائية (2.44%) وأخيرا من لا يقرأ أو يكتب (1.78.%) بينما اغفل (6.61 %) منهم ذكر تحصيله الدراسي..

   بالاستناد الى ما جاء في الدراستين أعلاه فإننا ننتهي الى ثلاثة إستنتاجات غريبة :

   الأول : ان 60 % من موظفي الدولة في العراق مرتشون معنى هذا أن غالبية موظفي الدولة مطعون في شرفهم لأن الرشوة جريمة مخلة بالشرف طبقاً للقانون العراقي ..

   الثاني : ان 72.4 % يعني ثلاثة ارباع الراشون يدفعونها لتسريع الاجراءات الإدارية أو الحصول معامله أو خدمة أفضل ..

   الثالث : أن حملة الشهادات العليا في العراق يتصدرون دافعو الرشوة ..

   ولما كانت الرشوة فعل شائن حرمه الدين وجرمه القانون ورفضته الثقافة المجتمعية فكيف يستقيم قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) مع تصّدر المثقفون لدافعي الرشوة في العراق..؟.

   أمر آخر مهم.. هل أن كل ما يعتبره القانون العراقي رشوة هو كذلك بالفعل أم أنه أمر آخر مختلف لكنه أكثر خسة..؟.

   لنتوقف عند تحليل مفهوم الرشوة..

   ـ الرشوة من وجهة نظر وعاظ السلاطين : عرّفها ابن منظور (صاحب لسان العرب) بقوله : (هي مأخوذة من رشا الفرخ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه)..

   لكن ابن منظور هذا لم ينصف وجنح عن جوهر الموضوع بعيداً وللأسباب الآتية :

   1. لأن الفرخ الذي يمد رأسه لأمه لتزقه.. عاجز عن الحصول على رزقه بنفسه ، أما المرتشي فهو شخص قادر على الحصول على رزقه من طرق شتى غير الرشوة.. .

   2. وهو غير قادر على التمييز بين الأفعال شريفها ووضيعها فهو مجرد فرخ.. أما المرتشي فهو بالغ راشد كامل الأهلية يميّز بين الأفعال لكنه مع ذلك يختار الوضيع منها.. .

   3. وفوق ذلك فان الرشوة في سياقنا تمنح لقاء مقابل أو وعد بمقابل والفرخ الذي تزقه أمه غير قادر ليعطي مقابلاً أو يعد بمقابل ..

   4. من جانب آخر فإن تصرّف الأم بإخراجها مما في حوصلتها لصالح فرخها عمل في منتهى الإيثار فكيف جاز لصاحب اللسان أن يستعيره لوصف الرشوة المذمومة..؟.

   وأذن فإن صاحب لسان العرب شأن غيره من وعاظ السلاطين كان يلوي الكلم من أجل تسويغ ما هو باطل وشائن ليخدم به أئمة الجور والفساد من الحكام.. بل أن بعض الوعاظ سوّغ الرشوة فقد قرأت أن أحدهم استفتى رجل دين بشأن دفع رشوة لمسؤول مقابل تعيين ولده فأفتى له رجل الدين قائلا : لو انك صادفت وحشاً مفترساً فاغراً فاه وبيدك عظم ألا ترمي له العظم كي يسمح لك بالمرور..؟.

   وقرأت أن مسؤول حكومي كان قد علق فوق رأسه في مكتبه الآية الكريمة : (وادفع بالتي هي أحسن) وكل واحد يراجع مكتبه يقرأ تلك الآية فيفهم المطلوب .. وهو مثال سيئ لتوظيف الدين بشكل منحرف.. .

   ـ الرشوة من وجهة نظر القانون : معظم القوانين الوضعية نصّت على الرشوة وعاقبت مرتكبيها ولكنها لم تعرّفها وكل القوانين نظرت الى الرشوة من زاوية واحده وهي زاوية الوظيفة فقالت بأنها ممارسة الاتجار بالوظيفة بإعتبار أن الموظف يتلقى أجراً عن قيامه بواجباته الوظيفية من الجهة التي وظفته وعليه فان العقوبة تنصب على قيامه بالاتجار بالوظيفة للحصول على مقابل آخر غير الأجر المقرر له ومن جهة غير الجهة التي وظفته ولغرض غير الغرض المحدد له .. ووفقاً لذلك فان القانون العراقي: .

   1. إشترط أن يكون المرتشي موظف وعندما لا يكون موظف لا تعتبر رشوه. .

   2. اعتبر المرتشي هو الأساس في العقوبة وبناءً عليه فإن عقوبة الراشي ليست عقوبة أصلية وإنما جاءت لاشتراكه في الجريمة الأصلية (الرشوة). . وهو بذلك قد أهمل جانبين مهمين هما الموقف من الراشي.. والباعث للرشوة أو الدافعية اليها..

   ـ الرشوة من وجهة نظر اللغة : عرّفها ابن الأثير بأنها : الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة ، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء ، فالراشي الذي يعطي من يعينه على الباطل ، والمرتشي الآخذ ، والرائش الذي يسعى بينهما.. واللغة تقول : ان الراشي هو الذي يعطي من يعينه على الباطل فهو يدفع مالاً من أجل أن يستفيد حقاً ليس له ، أو أن يعفي نفسه من واجب عليه..

   قراءة مختلفة للرشوة :

   1. ماذا لو كان الراشي قد دفع الرشوة ليحصل على حق وليس باطل ..؟ وماذا لو كان الراشي يدفع مضطراً من اجل أن يحصل على حق له لا يستطيع الحصول عليه الا من خلال الرشوة..؟ وماذا لو كان الراشي يدفع ليدفع عن نفسه ظلم واقع عليه..؟ ويدفع مضطراً لأنه لا يوجد سبيل غير الرشوة لدفع الظلم عنه .. بمعنى أن الغرض من دفع الرشوة مشروع وهو الحصول على حقه أو تجنب باطل يقع عليه ..؟ في هذه الحالة ومع التسليم بجرمية المرتشي .. هل أن الراشي مجرم ..؟ وهل يعتبر فعل المرتشي رشوه أم ما هو أفضع من الرشوة وأشد ظلماً..؟ إنه فعل إغتصاب.. فالإغتصاب لا ينحصر بالجنس كما هو شائع وانما للمال والحقوق أيضاً ومثل هذا الفعل ينطبق عليه مدلول الحرابة من الناحية الفقهية وتنحصر الجريمة بالمغتصب (الراشي) ولا تطال الضحيه : (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.. حديث نبوي شريف) في هذه الحالة فإن الدين أسقط العقوبة عن الراشي وشددها على المرتشي (المغتصب) .. لكن القانون ساوى بين الضحية والمغتصب.. .

   2. الرشوة تدفع من أجل ان يستفيد المرء حقاً ليس له .. لكن الدراسة اظهرت أن ثلاثة ارباع الراشون يدفعونها لتسريع الاجراءات الإدارية أو الحصول على معامله أو خدمة أفضل .. في هذه الحالة ما المقصود بالخدمة الأفضل ..؟ هل يريد المراجع من موظف الحكومة تمريغ عضلات ظهره مثلاً..؟ لا ابداً.. كل ما يريده المراجع أن يسمح له موظف الحكومة بالدخول الى الدائرة فينعم بالظل خلال مدة إنتظاره انجاز معاملته بدلاً من أن يرغمه الموظف الفاقد للقيم أن يراجع من الشباك وينتظر خلف الشباك في العراء تحت الشمس وبمواجهة الرياح والغبار.. فهل أن ذلك طلباً لباطل..؟ أم هل أنه سعي للإستفادة من حق ليس له ..؟ وإذا كان المواطن لا يحصل على هذا الحق المشروع الا بدفع الرشوة فهل أنه إن دفعها ، دفعها مختاراً أم أنه (ما استكره عليه) ..؟

   نأتي للحالة الأخرى (اللجوء إلى الرشوة لتسريع الإجراءات الإدارية ..) دراسات معروفة صدرت عن الأمم المتحدة وجهات رسمية عراقية تؤكد أن عمل موظف الحكومة خلال ساعات العمل الرسمي لليوم يتراوح بين 10ـ 17 دقيقة هذا يعني أن واقع استغلال وقت العمل لا يتجاوز 3,5 % في أحسن الأحوال ومعناه أن المواطن إذا كان يحتاج لمراجعة واحده لانجاز معاملته في الظروف الاعتيادية فإنه يحتاج الى 30 مرة.. وعندما تكون القضية محل المراجعة واجبة وغير قابلة للتأجيل كالحصول على هوية الأحوال المدنية أو سنوية السيارة أو جواز السفر أو معاملة إيصال الماء لداره فهل أن حقه في إختصار عدد مرات المراجعة (ومن الشباك) باطل يسعى للحصول عليه أم حقه المشروع ..؟ واذا كان هذا الحق لا يمكنه الحصول عليه الا من خلال الرشوة فهل أن الراشي في هذه الحالة ملعون أم أنه (مستكره عليه ..؟)..

   وتقول الدراسة أن ”أعلى معدلات الرشوة تنتشر بين المواطنين الذين يتعاملون مع الشرطة وموظفي تسجيل الأراضي وموظفي الضرائب والعائدات“.. عندما يلقى القبض على شخص بقضية إرهاب وهو بريء من ذلك أو أنه يسعى لتقليل مدة بقاءه في التوقيف دون عرضه على المحكمة لمدة تبلغ أحياناً أكثر من سنه .. أو أنه يطلب إخلاء سبيله لأن المحكمة حكمت ببراءته منذ أشهر .. فهل أن ما يطلبه هو تملص من واجب عليه أم إنه استنقاذاً للنفس من ظلم واقع..؟ وإن كان السبيل الوحيد المتاح أمامه لدفع الظلم عنه هو دفع الرشوة.. فهل ان دفعه للرشوة جريمة أم يدخل ذلك في خانة (ما أستكره عليه)..؟. .

   3. من هم دافعو الرشوة في الحالة العراقية ..؟. الدراسة تقول أن اصحاب الشهادات العليا هم من يتصدرون دافعو الرشوة في العراق ..؟ فإذا كانت الرشوة فعل شائن وفاسد ومذموم ومجرّم قانونا فهل يعقل أن يتصدر مرتكبوه من هم الأكثر من غيرهم تمسكاً بالقيم ..؟ وهل أن ذلك يستقيم مع قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)..؟ الجواب : أنهم إستكرهوا على ذلك وهم لم يسعوا للحصول على ما هو ليس حق لهم أو أرادو التنصل من واجب عليهم.. وهي ليست رشوه إنما إغتصاب وحرابه ، وفي فعل الإغتصاب فإن العقوبة لا تطال الضحية إنما تنصب على المُغتصٍب وهو المرتشي حصراً ومن مكنه من ممارسة إغتصابه للآخرين وهي الحكومة ..

   فإذن دراسات هيئة النزاهة في هذا المجال واستطلاعاتها الشهرية في مجال محاربة الرشوة والتي جعلت منها في السنوات الأخيرة بديلا لمواجهة الفساد غير علميه وغير منطقيه .. بدلاً من ذلك فقد كان ينبغي على إدارتها أن تتوقف ملياً عند النقاط التالية :

   1. عندما يكون محل الرشوة تسريع الاجراءات الادارية والحصول على خدمات أفضل.. فإن القضية ليست قضية رشوة انما إغتصاب للمال والكرامة والحقوق وفي هذه الحالة يوّجه اللوم للحكومة التي مكنت موظفيها المنحرفون والتي إختارتهم هي لا على أساس المقدرة والأمانة انما على أسس الحزبية والرشا .. والتوجه لإصلاح أسس التوظيف الى جانب نظم العمل والاجراءات المعتمدة من قبل دوائر الدولة وتطبيق المعايير التي تمنع تصعيب مراجعة المواطنين أو التعسف في حقوقهم أو إيقاع الظلم عليهم مع إجراءات مشددة ضد المرتشي ولكن ليس (الراشي)..

   2. مع إن إبتزاز الناس وإغتصاب أموالهم حقيقة واقعة وينبغي محاربتها بأشد الاجراءات فاعلية لكن الرشوة غير ذلك وهي في مجال الأعمال عندما يحقق الطرفان الراشي والمرتشي مزايا غير مستحقه وعلى حساب الدولة والمجتمع وتشكل نهباً وتبديداً للمال العام وحقوق الشعب...

   3. الطبقة السياسية والحكوميون هم أبطال الرشوة الحقيقيون وليس حملة الشهادات العليا ولا الساعون لإنجاز معاملاتهم بإجراءات معقوله أو الحصول على إحترام لأداميتهم عند مراجعة دوائر الدولة أو الحصول على حقوقهم الثابتة أو الدافعون لظلم يطالهم .. وتبدأ ممارسة الطبقة السياسية الفاسدة لهذا الفعل الشائن من الرشوة الانتخابية لشراء الأصوات ومن ثم شراء المناصب والمواقف مروراً بإحالة المقاولات وإبرام العقود ...

  كتب بتأريخ :  الإثنين 26-01-2015     عدد القراء :  2265       عدد التعليقات : 0