الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
أي تركة كارثية سنرثها من داعش؟

    عاجلا أو آجلا داعش تُدحَر.

   لكن ماذا بعد دحر داعش؟ أي عراق سنرث منها؟

   أي تركة كارثية سيتركه تنظيم «الدولة الإسلامية» الإرهابي للعراق بشكل خاص، ولعموم المنطقة، بعد دحره، الذي نسأله الله أن يكون عاجلا، ليس آجلا؟

   هل سنستطيع حقا كعراقيين أن نتعايش، أن نتآخي، أن نتعاون على بناء الوطن، وعلى تضميد جراحاته؟

   أم سنرث كرها شيعيا ضد السنة، لأن من السنة من شكل حاضنة لداعش، أو تعاطف وتضامن مع داعش، أو تشفى بضحايا داعش، من مسيحيين، وإيزيديين، وشيعة، غير ملتفتين إلى أن من ضحايا داعش هم أيضا من السنة أنفسهم، قلوا أو كثروا؟

   وهل سنرث كرها سنيا ضد الشيعة، لأن من ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية من ارتكب جرائم ضد السنة؟ ولأن سياسات السلطة الشيعية، أو بتعبير أدق الشيعسلاموية، وبالأخص في العهد المالكي، لم تسلك سلوكا عراقيا وطنيا، بل سلوكا شيعيا طائفيا، دون تبرئة الطائفيين السنة؟

   وهل سنرث مرارة مسيحية، وأخرى إيزيدية، من المسلمين، أو لعله عند بعض المسيحيين وبعض الإيزيديين كرها تجاه أبناء الوطن من المسلمين، أو بشكل خاص تجاه السنة، أو بشكل أخص السنة العرب؟

   وهل سنرث خيبة أمل إيزيدية، أو ربما كرها إيزيديا تجاه الكرد، إذا ثبت أن هناك تعمدا من قبل بعض مسؤولي سلطة الإقليم في تسليم الإيزيديين لمصيرهم المأساوي على يد داعش، أو إلم يكن هناك تعمد فتقصير، أو لامبالاة؟

   الفضائع ضد المسيحيين والإيزيديين، جعلت الكثيرين منهم يفكر أن العراق لم يعد بلدا آمنا له، وعليه أن يبحث في أنحاء الكرة الأرضية عن وطن جديد. ولعل الصابئة كانوا الأوفر حظا، كونهم لا يسكنون المناطق التي تعرضت للاحتلال الداعشي الوحشي، أو التي كان فيها ثمة حاضنة لداعش.

   وهل سنرث بعد داعش احتلالا إيرانيا غير معلن للعراق، لأن بطل التحرير سيكون قاسم سليماني؟ ومعه أبطال التحرير المحليون المرتبطون بإيران، هادي العامري، أبو مهدي المهندس، قاسم الخزعلي، مقتدى الصدر؟

   وهناك آخرون يريدون أن يتقلدوا وسام أبطال التحرير، كالشقيقين أسامة وأثيل النجيفي، وكذلك مسعود البرزاني. وظهر فجأة نوري المالكي ليتصدر قائمة المتنافسين على الفوز بالميدالية الذهبية في مباراة بطولة التحرير، في محاولة أو عملية جس نبض في إمكان تبوئه لمنصب القائد العام للحشد الشعبي.

   أكابوس هذا الذي نراه اليوم، أو هو امتداد لكابوس الاحتلال الداعشي في العاشر من حزيران؟ أكابوس نراه، حيث ثارات شيعية وثارات إيزيدية من سنة المناطق المحررة؟

   كلنا تعاطف على الفور، وبلا تردد، وبأصدق وأحر وأشد ما يكون التعاطف مع مواطنينا الإيزيديين. ولكن يأتي حفنة من إيزيديين متطرفين يصرخون يا لثارات الشنگال، ليقيموا حفلة مجزرة ثأرية بحق أبرياء من رجال ومراهقين وصبية من السنة العرب، يأتون ليسيئوا إلى القضية العادلة للإيزيديين، الذين ارتكبت داعش بحقهم وبحق نسائهم أبشع الجرائم.

   الحشد الشعبي جاء استجابة من شيعة العراق بشكل خاص لفتوى المرجعية بالجهاد الكفائي، وبلا شك إن هناك من هؤلاء المقاتلين المضحين من يقاتل حقا من أجل العراق، من أجل الوطن، من أجل كل العراقيين. لكن لا أحد يمكن أن ينكر، مع تثميننا لبطولات هؤلاء ودورهم في ردع داعش، إن هناك نسبة كبيرة، لا نبالغ إذا قلنا إنها تشكل ربما الأكثرية الساحقة من الحشد الشيعي، من يحمل كرها شيعيا ضد السنة، ويعمم دعشنة كل السنة بلا استثناء. وهذا الحقد الطائفي هو خطر مدمر، ووقود حريق محتملة ماحقة. نعم، جاء ربما هذا الحقد كرد فعل على حقد طائفي سني ضد الشيعة، ممن يعتبرون الشيعة كلهم روافض، صفويين، أعاجم، عملاء لإيران. فهناك تعميم سني ضد الشيعة، وفي المقابل تعميم شيعي ضد السنة. ومن أجل ألا نقع نحن أيضا في التعميم، أقول بكل تأكيد ليس كل الشيعة يعممون الداعشية على كل السنة، ولا كل السنة يعممون العمالة الإيرانية وغيرها على كل الشيعة. ولكن في كثير من الأحيان لا تسمع في أجواء الصخب أصوات العقلاء.

   أمعقول أن تتنافس المكونات على تحرير الأراضي، لجعل كل أرض محررة شيعيا أمرا واقعا شيعيا، وجعل كل أرض محررة كرديا أمرا واقعا كرديا؟ أهي المكافأة للمحررين، في جعل الأرض المحررة ملكا لمحررها، وواقعة تحت سلطته، سواء الشيعية، أو الكردية؟

   أم سنفيق من الكابوس، ونرى (المكونات) نسيت أنها مكونات، بل رأت نفسها منصهرة في الهوية العراقية، متصالحة مع بعضها البعض، فيصالح الشيعة السنة، ويصالح السنة الشيعة، ويعتذر السنة للشيعة، ويعتذر الشيعة للسنة، ويعتذر المسلمون للإيزيديين والمسيحيين والصابئة، ويعتذر الإيزيديون من السنة العرب، ويتصالح الكرد مع العرب والتركمان والآشوريين والشبك، ويتصالح العرب مع الكرد، ويعتذر العرب للكرد، ويعتذر الكرد للإيزيديين؟ هل من الممكن أن نرجع إلى العقل، فنحكّمه، ولا نستغرق في مناقشة هل السنة كانوا أشد طائفية من الشيعة، أم الشيعة كانوا أشد طائفية، وهل كان العرب أشد عنصرية تجاه الكرد، أم الكرد أشد عنصرية من العرب، ولا نحسب ضحايانا من أجل أن نقرر هل كان ضحايا الطائفية السنية من الشيعة أكثر، أم كان ضحايا الطائفية الشيعية من السنة أكثر، ولا نسأل من كان البادئ بالطائفية، ومن يتحمل مسؤولية تأجيجها أكثر، بل نقول نريد من اليوم أن نتسامح، أن نتصالح، أن يعتذر بعضنا لبعض، أن نتعايش، أن نتآخي ونتحابّ؟ أم سيكون ذلك مستحيلا من الآن، ولحين مجيء أجيال، تكون قد ترّشدت عقولها، وتأنسنت نفوسها، فيلعنون هذا الجيل السيئ، والزمن السيئ، أو لعلهم سيسامحوننا، لا لأننا نستحق أن نسامح، بل لأنهم سيكونون قد تعلموا من التجربة، ورقوا في إنسانيتهم، بحيث تأبى نفوسهم أن يحملوا ضغينة علينا نحن أبناء هذا الجيل السيئ والزمن السيئ، واتخذوا من مدرسة اللاعنف لمهاتما غاندي، ومن مدرسة العفو لنيلسون مانديلا درسا بليغا؟

   عندما أحلم بالانصهار في الهوية العراقية، فليس من قبيل الدعوة إلى تنازل كل عن خصوصيات هويته الجزئية، سواء القومية، أو الدينية، أو المذهبية، ولكن من أجل ألا تكون الهوية الجزئية متقدمة على الهوية الوطنية، وذلك ليس من أجل الاستغراق في الهوية الوطنية (العراقية)، لتتحول هي الأخرى هذه المرة إلى عصبية وعنصرية من نوع آخر، بل لتكون جسرا للوصول إلى الهوية الإنسانية الرحبة.

   نعم، يجب أن نقر، إننا نلمس ثمة عقلانية من عدد من سياسيي هذه المرحلة، أكثر بكثير مما لمسناه من سياسيي الثماني سنوات التي سبقت، كما نلمس محاولات للنأي عن التصعيد، ونلمس رغبة في السير باتجاه أكثر صوابا من ذي قبل.

   لكننا ما زلنا بعيدين جدا جدا عما هو مطلوب في دولة ديمقراطية مدنية اتحادية تعتمد المواطنة. لماذا أرانا بعيدين يا ترى؟ انظروا، السياسيون والقوى السياسية ما زالوا يتصرف معظمهم كممثلين للشيعة، وممثلين للسنة، وممثلين للكرد. والمشكلة تكمن بشكل أساسي في شيعية وسنية التمثيل، إذا ما تسامحنا مع التمثيل القومي، أو تفهمنا له، لاسيما إنه لا يحمل خطر الحريق الطائفي الأكبر.

   لقد استبشر أكثرنا بعدم التجديد للمالكي، وتفاءلنا بالعبادي، وما زلنا متفائلين، وكان تفاؤلنا منذ البداية تفاؤلا مقرونا بحذر وترقب، وما زال تفاؤلا حذرا. في تقديري إن ما يدعونا إلى حسن الظن بالعبادي أكثر بكثير ربما مما يدعونا لسوء الظن. لكن هناك قضيتان، الأولى المسافة بين ما يريد العبادي، وما يقدر عليه. سنكون معه بمقدار ما يريد، وسنتفهم لوضعه فيما لا يقدر عليه، إذا رأينا صدق الإرادة والقدر الكافي من الجدية. فسنكون معه إذا ثبت لنا أنه حقا يسعى إلى تحقيق أقصى الممكن والمستطاع. والقضية الثانية خلفيته الإسلامية والشيعية، فسنكون معه بمقدار تجرده عن إسلاميته، وعن شيعيته. لا نطلب منه ألا يكون متدينا، فهذا شأنه الشخصي، وفرق بين أن يكون الإنسان مسلما متدينا، وبين أن يكون إسلاميا مسيسا للدين. كما ولا نقول له لا تكن شيعي العقيدة، فهذا أيضا شأنه الشخصي، لكن رئيس رئيس وزراء العراق، بوصفه رئيسا لمجلس الوزراء، وقائدا عاما للقوات المسلحة، بوصفه يتبوأ أعلى موقع للسلطة التنفيذية، فإنه بمقدار ما يفكر شيعيا، وبمقدار ما يفكر إسلاميا، لا يكون لكل العراقيين. فمع تأييدنا له، بمقدار ما يريد أن يحقق للعراق، سنكون معارضين له بمقدار إسلاميته، وسنكون معارضين له بمقدار شيعيته، فلو كانت أي منهما، إسلاميته أو شيعيته، أو كلاهما، تمثل 10%، سنعارضه بهذه الـ 10%، ولو كانت تمثل 30% أو 50% أو 70% فسنعارضه بمقدار ذلك.

   فهل سيقدر العبادي أن يتجرد كرئيس للسلطة التنفيذية عن إسلاميته، وعن شيعيته؟ حتى الإسلامي، عندما ينحى المنحى العقلاني، والمعتدل، والمدني، والوطني، فهو يكون بمقدار ما يحقق من كل من ذلك علمانيا. والسياسي، لاسيما في مواقع المسؤولية العليا والمؤثرة في الدولة، بمقدار ما يكون ديمقراطيا، وبمقدار ما يكون وطنيا، وبمقدار ما يكون مُواطَنَويا، وبمقدار ما يكون حداثويا، وبمقدار ما يكون علمانيا، مع شرط النزاهة والكفاءة، يستطيع أن يخدم المواطن، ويتقدم بالوطن، وبمقدار ما يفتقد أيا مما ذكر، سيكون معيقا لتقدم الوطن، ومضرا بمصالح المواطن.

   أرجع إلى السؤال الذي بدأت به مقالتي: أي عراق سنرثه يا ترى من داعش بعد دحرها؟

   لا أتكلم عن احتمالات التقسيم، الذي لو تم بلا دماء، فسيكون أهون الشرَّين، لكني أتكلم عما ستتركه داعش، وطريقة التعاطي معها، من تعميق للشرخ الطائفي والديني والقومي، والكره المتبادل، والانعدام الكلي المتبادل للثقة.

   أم هل في النفق ثمة ومضة ضوء تعطينا أملا؟

   رغم كل مخاوفنا، أقول، اليأس من كبائر الخطايا بحق الوطن. لذا دعونا نعيش الأمل، على أن نقرنه بالعمل، حتى لو كنا نخدع أنفسنا بهذا الأمل، فلعل الخديعة تكون يوما حقيقة، إذا اقترنت بإرادة وصدق وجدية، وآمنت بحتمية التاريخ، وكانت عونا لهذه الحتمية.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 06-02-2015     عدد القراء :  3696       عدد التعليقات : 0