الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ثقافة التسامح مع البعث

في خضم الصراع السياسي الذي جرى في العراق منذ قيام الجمهورية الأولى في 14 تموز 1958 بين القوى السياسية ، ونتيجة الاختلافات والخلافات في الموقف والرأي والتصادم ، حدث تقاطع وافتراق بين تلك القوى السياسية التي يفترض انها تسعى جميعها من أجل وحدة الشعب وحماية الوطن وتأمين المستقبل وكرامة وحرية الناس و تأمين حقوقهم ، غير أن هذا التقاطع والافتراق توسع ، وجعل الخنادق أكثر عمقا ، والشروخ بدت غائرة في حياة العراقيين ، فسممت حياتهم وتكاثر الضحايا وكبرت الخسائر وتوسعت بقعة الدماء ، ومما زاد في الطين بلة أن يقوم حزب البعث باستلام السلطة في تموز 1969 بالتعاون مع مجموعة مشبوهة من الضباط المرتبطين بمخابرات دولية معروفة ، ومع ان حزب البعث نفسه ملوثا ومدانا بالتعاون مع تلك المخابرات والجهات خلال فترة اطاحته بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963 ، والتي كانت واقعة تاريخية مارس فيها البعث ارتكابه للجرائم ضد الإنسانية من خلال المجازر السياسية التي ارتكبها في العراق ، ولم تكن بقية القوى السياسية بمنأى عن ارتكاب الأخطاء ، حيث تشاركت جميع تلك القوى دون استثناء في الأخطاء المرتكبة كل بنسبة تختلف عن الأخرى ، الا انها ساهمت في دموية الحقبة التاريخية السابقة .

ولغرض إبعاد الشبهات التي اكدتها عملية التحالف والتعاون مع هذه المجموعة ، فقد انقلبت عليهم قيادة البعث محاولة أن تظهر بثوب جديد في 30 من تموز بعد اقل من اسبوعين على الانقلاب ، هذه المحاولة لغرض طلب فرصة أخرى لإثبات حسن النوايا تجاه العراقيين ، وأظهر البعث من النوايا الظاهرية ما يمكن اعتقاده صفحة جديدة للتعاون مع القوى السياسية الأخرى ، فمد كلتا يديه للتعاون مع القوى القومية ومع الحركة اليسارية ، غير انه مارس الطعن والتصفية بأجزاء من هذه القوى ، محاولا عزلها عن مكونها ، فضرب قسم كبير من الشخصيات القومية ، واغتال اسماء كبيرة من الشيوعيين واليساريين ، وزاد من عودته لسياسته الخالية من الشرف والقيم ، بأن اعتمد الصاق اتهامات اخلاقية شائنة بالشخصيات التي يتم تصفيتها ، ولم تزل ذاكرة العراقيين حية تستذكر اسماء شخصيات يسارية وقومية حاول البعث تلويث سمعتها وشرفها ، ثم أقدم على الإجهاز بارتكاب جرائم يندى لها الجبين الإنساني ، ولكنها لم تحرك بالصحو ضمير أكثر البعثيين .

وبغض النظر عن التحليلات والسرد التاريخي لتلك المرحلة ، فقد توفرت للبعث فرصة زمنية غير قصيرة لحكم العراق بلغت 35 سنة ، تحمل فيها مسؤولية كل التدهور والتردي الحاصل في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية وكافة مناحي الحياة الأخرى ، وفرض نمطا عسكريا على الحياة المدنية ، والغى الديمقراطية والحقوق السياسية ، وفرض سياسة الحزب القائد والنظام الدكتاتوري ، فشن الحرب الشعواء على الشعب الكوردي بعد ان فشل في اغتيال قيادته ، وفرط بسيادة العراق في اكثر من مرة ، وتمسك بالمؤسسات الأمنية حتى صارت تلك المؤسسات الجهات المرعبة المتسلطة على رقاب العراقيين والتي تقض مضجع المواطنين وتسلب منهم امنهم وحريتهم ، وساهم بارتكاب جرائم تصنيف العراقيين وتسفيرهم عبر الحدود وتجريدهم من ممتلكاتهم ، كما قام بارتكاب جرائم ابادة ابناء الكورد الفيليين ، وكرس الطائفية ، ووظف المحاكم الاستثنائية خارج إطار القضاء العراقي لتصدر احكامها بالموت على الاف العراقيين المعارضين لنهج الدكتاتورية .

ولم يتعامل البعث مع القوى السياسية المعارضة معاملة عقلانية أو واقعية ، واعتقد انه بتشديد قبضته على السلطة ، وقساوته في الاحكام يمكن أن ينهي الصوت المعارض ، فازدادت الانتهاكات المريرة لحقوق الأنسان ، ولم تكن هناك اية حقوق للمكونات ، وحاول البعث أضفاء أشكال وصور تمثيلية في عملية التمثيل السياسي وحقوق المكونات الأخرى وشكل الحكم .

وفشل الحكم فشلا ذريعا في ان يتفهم قضايا الشعب العراقي الأساسية ، وأن يوفر له الخبز والكرامة ، وفشل الحكم في أن يعكس النوايا والأهداف التي يزعم انه يؤمن بها البعث نفسه ، بعد ان سحقها الدكتاتور بأقدامه ، ومسح قدرة الحزبي على التطوير والتفكير ، حيث صير عناصر التنظيم مخبرين وعسس يخاف بعضهم بعضا ، معتمدا على المؤسسة الأمنية والعسكرية في ترويض الشعب .

كما كان لإدخال العراق حروبا عبثية ، افقدته اعداد كبيرة من الرجال قبل ان تفقده ثرواته ودخله الكبير بعد ارتفاع اسعار النفط ، والتي كانت رهنا للدكتاتور وعائلته ، سببا من اسباب تدهور الحياة ، فاربك حياة العراقيين ، واجبرهم على التقهقر وحياة العوز والتقشف ، واصبحت حياتهم قاسية لا تطاق مما اضطرهم للبحث عن ملاذ آمن أخر ، وبلدان توفر لهم الكرامة مع العيش الكريم ، فانتشروا في بقاع الأرض .

بعد كل تلك الفجيعة التي حلت بالعراق ، تم اسقاط سلطة الدكتاتور من قبل القوات الأمريكية في نيسان 2003 ، ولم تكن المصالح الأمريكية تريد البناء الديمقراطي واستتاب الأمن في العراق بقدر ما كانت تريد ترتيب مصالحها ، وتنفذ مخططاتها في المنطقة ، فحدثت شروخا اخرى كان بالإمكان تخطيها ومعالجتها بالحكمة ، غير ان القيادة كانت تفتقد للموقف الموحد أو السعي من خلال المشتركات بين العراقيين ، فبرزت ظاهرة الطائفية ، وبرزت معها ظاهرة التصدي المقاوم للوجود الأمريكي في العراق ، وبالرغم من انسحاب القوات الأمريكية وإعادة السيادة للعراق ، الا ان مناهضة الحكم الجديد من قبل قوى متعددة عسكريا ولأسباب طائفية ، عكست النوايا الحقيقية لتلك الجهات ، وكشفت مالايمكن التستر به ، ولم يخف البعث وقوفه مع التيارات والقوى الإرهابية التي نالت ولم تزل تريد النيل من شعب العراق ، فاصطف بكل صفاقة مع القاعدة ، وتعاون مع مجرميها ، ومهد الطريق للتعاون مع تنظيم النقشبندية العسكري الإرهابي ، ومهد الطريق لدخول داعش الى الموصل وصلاح الدين والأنبار ، ليصبح مطية طائعة تحت أمرة التنظيم الإرهابي ، ثم ما لبث ان انسحب بعد ان تفرد تنظيم داعش بالسيطرة على تلك المدن ، دون ان يبدي تصويبا لموقفه او يعتذر على اقل تقدير من شعب العراق عن تلك الأفعال الخيانية الشائنة .

وازاء المواقف السلبية التي يقفها البعث من الشعب العراقي وليس فقط من الحكومة التي يطلق عليها شتى الأوصاف والنعوت ، فأصبح منبوذا وطريدا ، ولم تشفع له نصوص الدستور التي وفرت للفرد العراقي حرية الفكر والضمير والعقيدة ، وحرية التعبير بكافة الوسائل ، فتم عزله منبوذا ومذموما من العراقيين .

ثمة من يطرح سؤال حول امكانية عودة البعث للعمل في الساحة السياسية العراقية ، وثمة من يعتقد أن بالإمكان أن يعود العقل والحكمة لقيادته فيقر بالواقع ويعترف بالتغييرات الحاصلة في الحياة ويؤمن ولو لمرة واحدة بتاريخه بحق الأخر في الفكر والعقيدة ، وان يرمي نظرية الحزب القائد الى مزابل التاريخ ، ويندمج بالعراق الفيدرالي .

هذه التساؤلات تتطلب اولا نوعا من المرونة في العمل السياسي ، واعتماد خارطة للتسامح والقبول تتطلب مواقف تمهيدية ازاء مواقف تاريخية خاطئة ، ومواقف فكرية وسياسية سيئة ، وانتقاد لفترة زمنية أضرت بالزمن والأنسان العراقي كثيرا ، والإقرار بجرائم ارتكبت بحماقة في فترات معينة والتوقف عن ارتكاب الخيانات والحماقات ، وتتطلب ايضا مواقف تخفف التشنجات والانفعالات ما تجعل الموقف السلبي أكثر مرونة واقل حدة او صعوبة ، حتى يمكن ان نفكر بالتسامح ، ليس من باب الأحكام المسبقة ، أو الأحقاد العمياء ، انما من باب التجاوز عليها وتطويعها للوصول الى موقف يمهد الطريق للتسامح .

الا ان التاريخ يعلمنا ان العقلية التي قادت وتقود البعث لا تقبل ولاتتقبل الفكر الاخر ، ولاتقبل ايضا ان تقر بالواقع ، ولاتفكر بالتطور الحاصل فكريا وسياسيا واجتماعيا في المجتمع العراقي ، وبالنظر لسيادة الفكر الطغموي المتسلط على قيادة البعث ، سيبقى البعث اسير الماضي ، وسيبقى يدور في دوامة السعي والتعاون مع كل القوى الإرهابية مهما بلغت درجات انحطاطها وخستها ، رافضا تطبيق فكرة التسامح بشكل مطلق ، فلم تزل قيادة البعث تعيش الوهم ، ولم تزل متعلقة بأحلام شطبها الزمن ، فلم تعد عمليات الانقلاب العسكري تجدي نفعا للسيطرة على السلطة ، ولم تعد عمليات التعاون مع المخابرات تعيد السلطة أيضا ضمن هذا الزمن الجديد .

ومع أن الموقف الاستئصالي يتعارض مع الفكر الديمقراطي ، الا ان تبرير الحظر المفروض على كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب او التكفير أو التطهير الطائفي ، او يحرض أو يمهد او يمجد أو يروج أو يبرر له ، ( وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه ) ، ولم يجوز الدستور ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق ، ونتلمس أن امر الحظر المفروض حصرا على البعث الصدامي ،وبالرغم من ان الدستور لم يعرف البعث الصدامي ، الا ان قيادات وعناصر وشخصيات عملت ضمن فترة البعث من 1968- 2003 ، تشكل مقياسا في العراق على العناصر الصدامية ، خصوصا اذا كانت لم تزل متمسكة بالولاء للبعث ولقيادته المبتلية بدماء العراقيين ، ولعله تمييزا عن موقف ووطنية البعث اليساري او الجناح السوري .

مسألة التسامح وقبول الفكر الاخر مرتبط بالأيمان بالعراق الاتحادي الفيدرالي ، وبمبادي العملية الديمقراطية ، وبمدونة الحقوق والحريات التي جاء بها الدستور ، وتلك مفاتيح كبيرة للدخول في العملية السياسية ، كما ان مسألة الأيمان بالمراجعة والاعتذار من الشعب ، وتقديم كل من تلوثت يديه بدماء العراقيين الى القضاء ليقول كلمة الفصل فيه ، تشكل جميعها خطوات شجاعة وإيجابية ، ودون ذلك تظل عاجزة عن فهم واقعها وفهم نفسها، غارقة في عدم فهم حاضرها وماضيها، وغير قادرة على مراجعة تاريخها مراجعة نقدية جادة وشجاعة لغياب الحداثة و عدم قدرة البعثيين على المراجعة واستقراء المستقبل .

أن ثقافة التسامح مرتبطة بقناعة العراقيين ، وتتعلق ايضا بامتلاك الحقيقة ، والبعث الصدامي غارق حتى أذنيه في جرائم يندى لها الجبين ، ومن الغريب ان يتباهى بها ، وكأنه يتحدى العراقيين بلغة بائسة وبعيدة عن المنطق ، علينا ان نتمسك بحماية الفرد العراقي من التلوث بالفكر الواحد ، وان نسعى جميعا لنشر ثقافة قبول الاخر ، وان نعتمد المبادئ الديمقراطية في العمل السياسي ، وان نؤمن بان لكل فرد الحق في الحياة والامن والحرية ، وان حرية الانسان وكرامته مصونة ، وحيث ان البعث الصدامي لا يمكن ان يقتنع بهذه المبادئ ، فلندع الزمن كفيل بان يجعل من الصحوة الضميرية والمراجعة التي تتخلص من رموزه وقياداته المبتليه بشتى الأمراض النفسية والجسمية ، حينها نفكر بالتسامح مع كل الخسارة التي يمكن ان يلحقها البعث بالعراق ، وأن الزمن كفيل ايضا لينهي وجود مثل هذه العقليات التي تحجم عن اللحاق بركب التطور والايمان بالفكر والعقيدة والضمير .

  كتب بتأريخ :  الخميس 26-02-2015     عدد القراء :  3816       عدد التعليقات : 0