الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
حرب اليمن.. قف!

بوجيز الكلام، ثمة في اليمن حرب اهلية كلاسيكية: الكل يحارب الكل.. الحوثيون يحاربون الجماعة الارهابية المسلحة "القاعدة" وكلاهما يحاربان الدولة التي تحاربهما بوسائل الاستقواء المستعارة من وراء الحدود، لكن الشيء الآخر الخطير الذي تطرحه الحرب اليمنية يتعلق بالحرب نفسها كوسيلة لحل الخلافات، او وسيلة للوصول الى السلطة، في وقت دخل العصر مرحلة بدت كما لو انها فتحت الافاق نحو الطريق السلمي البديل للعنف: الاحتجاجات، العصيان المدني، المفاوضات، التعبئة الشعبية، كمعبر آمن الى التغيير.

واللافت هنا بان الازمات اليمنية الدورية تنطلق من نقطة غامضة ثم لا تلبث ان تشغل العالم بوصفها قدرا أو كابوسا، لكأن الهدهد لا يزال يخاطب سليمان حتى اليوم "وجئتك من سبأ بخبر يقين".

ومعلوم ان فريدريك انجلز سجل ــ عن اليمن ــ منذ ما يزيد على مائة وخمسين عاما في رسالة الى كارل ماركس انه كان "يكفي ان تنشب حرب واحدة حتى يتم اخلاء البلد من سكانه" ووصف ما يحدث من اضطرابات غامضة هناك بالقول "ان تدميرا مباشرا وعنيفا يجري الى درجة لا يمكن تفسيره الا بالغزو الحبشي".

لا جديد في القول ان الحرب اليمنية الجديدة "الكل يحارب الكل" كانت قد دشنت طريقها على نحو واضح في سوريا، ما يحمل المحللين على الاعتقاد ان مثل هذه الحروب " القذرة والمعقدة" ستعم مناطق كثيرة من العالم التي تعاني من اثار اللاعدالة في نظام العولمة الجديد. والمهم، ان اسباب اندلاع الحروب لا تزال، كما في السابق، موضع دراسة واختلاف، وهناك من يحاول التقليل من أثر البعد الاجتماعي الداخلي لها، مع انه يتجدد في اشكال كثيرة.

في كتابه "الامتاع والمؤانسة" يعيد ابو حيان التوحيدي اسباب الحروب الى احوال التمييز واختلاف النِعَم بين البشر في قوله: "لولا ثلاث لم يُسْلل سيفٌ، ولم يقع حيفٌ: لقمةٌ أسوغُ من لقمةٍ، ووجهٌ أصبح من وجهٍ، وسلكٌ أدق من سلكٍ" اما هيرودوت، ابو التاريخ، فقد اعاد اسباب الحروب الفارسية اليونانية قبل الفين واربعمائة عام الى فساد وجبروت المدن، لكن هيرودوت يحذر من الاعتقاد ان جميع الحروب تندلع لاسباب مشروعة. فالشرعية قضية تثير التباسات واختلافات منذ حروب طروادة التي يختلف حول شرعيتها المؤرخون حتى الآن، لكن الاكثر مدعاة للحذر من القبول بمبدأ الحرب كحل للخلافات بين الدول هو ان الامم تعطي العدو خلال حروبها صورة يصبح معها قتله، والتمثيل بجثته مشروعا.

في غضون ذلك اكتشف الكثيرون وصفة "سحرية" لتأويل حروب غير عادلة، لا أخلاقية، أو لا داعي لها، وفي الغالب تكون النزعات المغامِرة واجهة للعنجهية والطموحات الشخصية المفرطة والمريضة، لأنها تهيء الاسباب الواهية للكثير من الحروب. كاليغولا، كان يقول: "أريد الحصول على القمر. ان أغرق السماء في البحر. ان أمزج الجمال بالقبح. ان أصدر مرسوما بتعيين حصاني رئيسا لمجلس الشيوخ" أما صدام حسين فانه عدّ الحرب "كونه" يثبت خلالها قوته وتفوقه، وأول اسم تمثّل فيه، كمحارب، هو "محمد الفاتح" الذي نجح في فتح القسطنطينية، لكن التمثيل التجسيدي لصدام وُجد، بوضح، في المركيز دي ساد (أبو السادية) الذي قال: كي يكون المرء محاربا فتاكا، ولا أخلاقيا، فان عليه ليس الانغماس في فعل الشر، بل عدم السماح لنفسه بارتكاب فضيلة واحدة"، وثمة الكثير مَن يتذكر كيف خرج الدكتاتور بعد هزيمته بحرب الكويت وهو يستعرض قوته في احتفال جماهيري معتمرا فوطة سوداء عليها قبعة كالتي يعتمرها رعاة البقر ممسكا بندقيته، فيطلق الرصاص مزهوا بكسب الحرب التي كانت كارثة للبلاد، في واقع الحال.

الاقوال في الحرب كثيرة، واطرفها قول جورج ارويل بان "أ سرع طريقة لإنهاء الحرب هي أن تخسرها" أو قول ويلز " في الحرب يُكثر اللصوص, وفي السلام يشنقون" وحكمة أجاثا كريستي القائلة "الانتصار في الحرب مشؤوم مثله مثل خسارتها" وقول فولتير " ليس القوي من يكسب الحرب دائما، إنما الضعيف من يخسر السلام دائما" والشاعر بول فاليري في قوله "الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض" وحكمة جون مل ستيوارت "الحرب شيء سيئ، لكن الشعور بأن لا شيء يستحق القتال من أجله هو أسوأ بكثير" اما اينشتاين فقد كان يقول "لا أعلم بأي سلاح سيحاربون في الحرب العالمية الثالثة، لكن سلاح الرابعة سيكون العصي والحجارة".

وفي تاريخ هذه المنطقة ثمة سجل ضخم للحروب. اسبابها، ظروفها ونتائجها. وتعد بلاد اليمن بحد ذاتها ارشيفا لحروب في عمق التاريخ حتى ليبدو تاريخ اليمن كسلسلة من الحروب لتغيير السلاطين والحكام من بلقيس ملكة سبأ حتى علي عبدالله صالح، فمن الكثير من المدونات نعلم ان اليمن لم تنعم باستقرار الا ونزلت عليها نازلة الفتن، ولم تنصرف الى البناء الا وأغارت عليها الفيضانات والاعاصير والدوامات، وكانت الدورات الكونية قد منـّت عليها بجنتين "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم"

وفي كتابه رحلة اثرية الى اليمن رصد الدكتور أحمد فخري امجاد اليمنيين اذ فرضوا سيطرتهم على خط القوافل التجارية من الجوف الى الشام، كما انهم فرضوا ثقافتهم وابداعاتهم الصناعية والحياتية في زمن كانت الامم تغط في ظلام دامس الامر الذي عبرت عنه آثار مدن قرنو وقتبانو ووائل حتى القرن العاشر قبل الميلاد، حيث شيدت مملكة سبأ العريقة التي عرفت اعرق ديمقراطية في مجالس المشورة والجدل، وتمثل نقوشها الآن مفاتيح معارف للدخول الى مغاليق تاريخ الشرق وفصوله الأكثر مثاراً للجدل حيث انهارت المملكة اليمانية الاولى تحت سنابك خيول الممالك المجاورة، ورحل ملوك وجاء ملوك غيرهم.

وليس مبالغة في اجماع المؤرخين على ان الظاهرة السبئية من حيث الصعود الى المجد والهبوط الى الخراب استمرت في حقب التاريخ اليمني باشكال مختلفة حتى تحولت هذه البلاد العريقة الى حكمة بالغة الدلالة، فثمة لديها جواب لأي سؤال.. ولديها دواء لكل داء، ولديها حرب لكل سبب.

هذا في الماضي.. أما في الحاضر.. غداة القرن الواحد والعشرين فقد خاضت اليمن ثلاثة حروب أهلية تحت شعار توحيد الأرض وانهاء التشطير.. وحربا رابعة بلا شعارات محددة، عناوينها الارهاب واختطاف السياح وحرية التعبير وانهاء الامبراطوريات القبائلية وترويض الغزال الجنوبي لضمه الى العائلة اليمنية التي طالما ارهقها الحنين الى مملكة سبأ المهيبة الجانب، ثم دخلت حربها الخامسة: جمهورية وراثية، وذلك قبل ان تندلع الحرب السادسة قبل ثلاثة اعوام مع اندلاع حروب الربيع العربي التي شهدتها شوارع المدن العربية الكبرى، وقد اصبح واضحا بان مطالب اليمنيين لم تبتعد عن تلك الصبوات النائمة منذ آلاف السنين: دولة تنعم بالرفاه والعدالة.

لم تكن تلك الحروب اليمنية، والحرب الدائرة الآن، بالنتيجة، غير سيناريوهات لمستقبل يسهل فيه تعريف معنى الحرب.. كسياسة قذرة بوسائل اخرى، اكثر قذارة.

********

"يمكنك الذهاب إلى مدى بعيد بابتسامة، ويمكنك الذهاب إلى مدى أبعد بكثير بابتسامة ومسدس".

آل كوبوني- رجل العصابات الامريكي

  كتب بتأريخ :  الأحد 01-03-2015     عدد القراء :  4704       عدد التعليقات : 0