الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
صور تذكارية قديمة حانَ زمن دفنها !.

   * يُعتَبَرُ الشهر الثالث ( آذار) في تأريخ حضارة وادي الرافدين من أهم وأسعد وأمتع الشهور، حيث يُمثل بداية السنة والربيع وعودة الحياة والطبيعة وقيام الإله من موته وسباته، وهو أيضاً شهر إحتفالات (الأكيتو) الذي إقتبسته -تقريباً- كل شعوب وأمم العالم وأعطته أسماء وأوقات وأسباب وقصص مُختلفة، ولا زالت تحتفل به لحد اليوم. وسيبقى دائماً عيد الربيع والخير وعودة الروح والحياة والأمل والإشراقة إلى نفوس ووجود وكيان البشر التواقين لإستقباله وإحتضانه والإحتفال به بكل فرح وسرور.

   لكنه وللأسف لم يكن كذلك بالنسبة لي ولعائلتي وبعض الأقارب حولي هذا العام!، حيث تزامنت مع بداية هذا الشهر ولحد الآن -وبقدرية عجيبة- ما لا يقل عن عشرة حوادث مؤسفة لبعضنا، وكانت حصتي الدخول إلى المستشفى بسبب ثلاث إنسدادات جديدة في أوردة القلب تم معالجتها وفتحها بكل نجاح، شكراً للتكنلوجيا وللعلم وبلاد "الكفار" التي ضَمَنَت لنا أن نعيش في الوقت الفائض!!، وربما كان بعضنا سيكون قد رحل نهائياً عن هذا العالم بسبب ضعف وتردي وحتى إنعدام العلاج الطبي لو كان قد قُدِرَ لنا البقاء في أوطاننا الشرقية التي تُطارد الأطباء والعلماء والعباقرة وتُبيدهم بدم بارد كما تُبادُ الصراصر والفئران !!.

   أما أقسى تلك الحوادث المؤسفة وأكبرها فكانت الوفاة الفُجائية غير المتوقعة أبداً لأحد أقرب وأعز أصدقائي، وبنفس الوقت هو شقيق زوجتي الراحل عماد، ذلك الإنسان الطيب الكريم الشهم الذي سيفتقده كل من عرفه من ناس لخصاله الإيجابية التي من الصعوبة حقاً جمعها في إنسان واحد!؟.

   كل هذه الأمور الحياتية الحزينة جعلتني أبتعد تلقائياً عن الكتابة لبضعة أسابيع، ولكن … الأفكار نهر يصعب صده لزمن طويل، والسدود ستتهاوى بصورة حتمية، فالحياة يجب أن تستمر !.

   * من عاداتنا العراقية الكلدانية في المهجر الأميركي أن نقوم بعرض الصور الشخصية لأمواتنا بعد رحيلهم. نضعها في قاعة مجلس العزاء، قريباً من الباب، ليراها ويستعرضها ويتذكر أصحابها الداخل والخارج.

   تبدأ تلك الصور بالصورة الأولى التي إلتُقطت للراحل أو الراحلة، وتمضي تدرجاً إلى أخر صورة له، وبحسب إمكانية وجود تلك الصور، وحتماً سيكون من ضمن الصور أهم أيام ومُناسبات حياة الراحل أو الراحلة من ( ولادة وعماذ وتناول أول)، إلى مدارس وتخرج وخطوبة وزواج، ثم ولادة أول طفل للعائلة، وربما صور أول محل تجاري، أو أول وظيفة حصل عليها بأتعابه وجهوده ودراساته، كذلك صور مع أعز الأصدقاء والأقارب … وهكذا.

   * قامت إبنتي -وبمساعدتي- بنبش آرشيف الصور العائلية الخاصة بنا، في محاولة لإيجاد أجمل الصور لخالها الراحل، ومن ثم جمعها مع عدد آخر من الصور التي سينتقيها أخوته وأخواته وأولاده وزوجته ومن ثم تكبيرها لغاية عرضها داخل قاعة مجلس العزاء في اليوم المحدد.

   الحق لم أكن قد راجعتُ الصور التذكارية الكثيرة التي في حوزتي منذُ سنوات طويلة مضت، لِذا بَقيتُ مع إبنتي لساعات طويلة نتفرج على تلك الصور والتي بعضها يعود لتواريخ قديمة جداً لِذا فهي بالأسود والأبيض، وكنتُ قد وَرثتُ أغلبها من عائلتي يوم أرسلها لي بعض الأقارب من بغداد بعد موت والدتي وأخوتي ووالدي الذي كان آخر الأحياء من العائلة في بغداد الحبيبة، وبهذا أصبَحتُ أنا من إستقرت عنده كل تلك الصور العائلية القديمة.

   من بين بعض الصور القديمة جداً وجدتُ صوراً لأناس لم يسبق لي التعرف عليهم سابقاً في العراق!. حتماً هُم أقارب والدي أو بعض أصدقائه أو زملاء دراسته أو موظفين معه في الدائرة الحكومية التي كان يعمل فيها لسنوات طويلة .. ربما !!.

   كانت صوراً لا أعرف لماذا أعطتني شعوراً بالحزن والأسى وبعبثية دورة الأفلاك والحياة الشبيهة بالطاحونة التي لا ترحم أحداً.

   هؤلاء الناس في الصور القديمة كانوا مُبتسمين وفرحين وأحياناً كانت بين أيديهم أقداح الشراب وكأنهم يحتفلون بذكرى أو عيد أو مناسبة خاصة عزيزة عليهم !. وكان ظاهراً جداً مقدار أناقتهم ونوعية ملابسهم (على المودة) رغم كون كل تلك الصور عائدة لزمن الثلاثينات والأربعينات وبداية الخمسينات من القرن المنصرم!!.

   ربما يرقد هؤلاء الناس اليوم في مقبرة مهجورة مُترَبَة صامتة في بغداد!، بعد أن خلت مسالكها وممراتها من زوار أضرحتها المتناثرة بصمت مطبق هنا وهناك، حيث لا زائر إلا الريح، بعد أن هاجر كل الأقارب والأصدقاء إلى جهات الأرض الأربعة طلباً للحياة والحرية والعيش الكريم!!.

   أو ربما هُم الآن عظام مكسورة مهشمة مختلطة مع عظام غيرهم في مقبرة إستباحت صمتها وهدوئها جرافات وبلدوزرات داعش التي وصل حقدها لحد نبش قبور الناس الآمنين المسالمين الذين ترقد بقاياهم في تلك القبور منذُ آلاف السنين !.

   مساكينٌ نحنُ أبناء الرافدين !!، فقد تم تحريمنا حتى من مترين أو ثلاثة من أرضنا الطيبة التي ما عاد يُزرعُ فيها غير السم الزعاف والحنظل والصبار!.

   لحد عشرة سنوات خَلَتْ كان سكان الرافدين يتوسلون الحكومات الكارتونية المتعاقبة من اجل السماح برد بضعة جثامين لمُبدعين عراقيين ماتوا ودُفنوا خارج العراق، بينما نحنُ اليوم نتوسل حكوماتنا القرقوزية عسى أن تسمح لنا بإخراج عظام أهلنا وأحبابنا من أجل دفنهم في أرض وقبر لا يُنبش ولا يتم فيه معاقبة الأموات بسبب جذورهم الدينية والقومية يوم كانوا على قيد الحياة !!!!.

   راحت إبنتي تسألني: من هو هذا الرجل، ومن هي هذه السيدة ومن هم هؤلاء الأطفال الحلوين والناس المتحلقين حول جدي أو جدتي في هذه الصورة أو تلك!!؟ لكني لم أكن أملك الجواب لإسئلتها الكثيرة، حيث إستطعتُ التعرف على بعض هؤلاء الناس، ولكن … الغالبية الأخرى بقيت بالنسبة لي علامة إستفهام !.

   بعدها قامت إبنتي بتفجير السؤال الأهم من خلال كل أسئلتها: ما نفع وقيمة أغلب هذه الصور التذكارية القديمة إذا كُنا لا نعرف من هم أصحابها، وما المعنى من الإحتفاظ بها، وربما علينا إتلافها كونها لا تُمثل أحداً وليس هناك من هو بحاجةٍ لها!، بالضبط كما نتخلص من الآثاث القديم!؟.

   ثم إنصرفت من غير إكتراث لسماع رأيي في الموضوع، حيث كان قد تأخر لها الوقت، ولا تود أن تكون متأخرة على وظيفتها صباح الغد.

   لأكثر من ساعة كنتُ لوحدي أُحدق في تلك الصور القديمة بالأسود والأبيض، ومر عبر ذاكرتي كل التأريخ الذي علمتني إياه الكتب، فرأيتُ حياة الإنسان ليست إلا دقائق من عمر هذا الكون وعمر البشرية الذي يقدرهُ العلماء بملايين السنين!، وتعجبتُ مرة أخرى من كون الإنسان يموت وينتهي ويتبخر كأي شيء آخر من حوله، كالحيوان والنبات، ليُعطي من خِلال فنائه ديمومة جديدة لكائنات أخرى بشرية أو حيوانية أو نباتية !!، وربما كان هذا هو عماد الفكرة من الإحتفال بعيد الأكيتو لإنسان بلاد ما بين النهرين، (الموت والفناء .. ثم الولادة من جديد)، موتٌ وحياة متواليان ومتعاقبان ومستمران إلى ما لا نهاية !!.

   جمعتُ كل الصور القديمة الجميلة التي لا أعرف أصحابها، وضعتها في حقيبة جلدية صغيرة، دسستُ تلك الحقيبة تحت وسادتي، ونمتُ .. بينما أفكار وعواطف وأحاسيس وأمواج مُختلفة تتقاذفني يميناً ويساراً.

   * في صباح اليوم التالي قمتُ بحفر موضع عميق في حديقتي التي تستعد لإستقبال فصل الربيع، طمرتُ في قاعِها الحقيبة الجلدية الصغيرة !، ثم وضعتُ فوق التراب صخرة متوسطة الحجم مع بضعة دموع تساقطت بالرغم عني فوق تراب الحفرة !، ولم أنسى أن أضع بضعة ورود حية حول القبر الصغير لهؤلاء الناس المسالمين الطيبين !.

   كذلك قررتُ أن أُخبر عائلتي برغبتي في أن تُدفن كل صور آبائي وأجدادي معي بعد موتي!، كي لا تبقى بيد من لا يعرفها أو يتذكرها من الأبناء والأحفاد والأقارب!، إذ يعز عليَ أن يكون مصيرها المزبلة ذات يوم !.

   ناموا قريري العين أيها الناس الطيبين الذين لا أعرفهم، لكني لا أشك لحظة واحدة في طيبتكم ونوع الحياة والفرح التي أشعتموها حولكم يوم كانت قلوبكم تضخ الدم ليس عبر أجسادكم فقط، بل عبر كل الأرض والأنهار والنخل العراقي والإنسان الذي سكن تلك الجنة الأرضية منذ ملايين السنين، وقبل أن تظهر نكتة "آدم وحواء" إلى حيز الوجود قبل حفنة سنين "إلهية" !.

   ناموا ولا تخافوا غدر وأذى الجرافات والبلدوزرات والمعاول الحاقدة اللئيمة، فأنتم معي وفي حديقتي ولو إلى حين، إلى أن ينتهي وجودي وأرقد بسلام وراحة أبدية بين أحظان أُمي الأرض، في أرض ستعوضني عن الأذى المُحتمل لعظامي وذِكرايَ فيما لو تم دفني في أرض أجداد أجدادي.

   المجدُ للإنسان.

   طلعت ميشو.

   March- 27- 2015

  كتب بتأريخ :  الجمعة 27-03-2015     عدد القراء :  4887       عدد التعليقات : 1

 
   
 

Samir khamarou Guest

كلنا، او البعض منا من الذين يفكرون ويكتبون، واجهنا مثل هذه الأسئلة ! حسنا أن البعض من أجدادنا وأعمامنا والأقرباء البعيدين لم تتح لهم فرصة التصوير، أما بسبب عدم وجود ألة تصوير في وطننا أو أن الكاميرا لم تكن قد أخترعت بعد . فقد كان يلجأ الأغنياء والموسرين وأصحاب السلطة الى رسامي البورتريتات . rnولهذا أقصى ما نملك من صور في العراق هو صور الجد والجدة ، أي عائلة والدي، وهي بالأسود والأبيض وقليلة جدا . rnصادف هذا الشهر وفاة خالتي جوزفين، ووصلتني عدد من الصور عبر موقع " التانكو" وفي الحقيقة كانت الصور قليلة ولكن كان هناك صورة في غاية الأهمية بالنسبة لي، صورة عائلة والدتي، والدها ووالدتها وحولهم البنات والأولاد . وهذه هي الصورة الوحيد التي أراها لجدي . والصورة غريبة الرجل الأنيق جالس على الكرسي والزوجة وراءه والأبناء والبنات تحيط به . rnأنه رجل العائلة، والشخصية الأهم من طريقة جلوسه .rnوعندما أرسلوا الصورة طلبوا مني أن أتعرف على من في الصورة . والغريب ورغم أنني أرى جدي للمرة الاولى وزوجته وبناته وأبنائه فقد عرفت والدتي وخالتي وأخوالي . rnالرجل كان جالسا ً بطريقة وكأنه جنتلمان إنكليزي . rnعند سفري عام 79 من القرن الماضي للدراسة في فرنسا لم أحمل معي دفاتر الذكريات ( مذكرات ) ومجموعة قصص ، ومجموعة شعرية ومجلات وجرائد منشور فيها بعض كتاباتي أو الحديث عن أعمالي المسرحية أو السينمائية أو الفيلم الوحيد الذي مثلت فيه على كبير من اللوحات التي أهديت لي من قبل أهم الرسامين في ذلك الوقت، وكنتُ أأمل أن أعود في يوم ما ... والسنوات تمر بسرعة وما زلت في الغربة لحد اليوم . وهكذا ضاعت صور العائلة وخاصة صور أختي هدى التي افتقدناها وهي في عمر الورد 16 سنة وبسبب الطبيب الغبي الذي أعطاها أدوية قاتلة كما اخبرنا الطبيب الانكليزي فيما بعد . وكذلك صور والدي rnوصوري اثناء التمثيل . أو في الاكاديمية . أو أثناء عملي كمخرج في مؤسسة السينما والمسرح . rnتصور يا صديقي ، سألت أحد أصدقائي عن الاعمال التي قمت بأخراجها وهل يستطيع أن يرسل لي بعضا منها، فضحك مني وقال لقد سرقوا كل شيء حتى الاجهزة وأنت تسأل عن أعمالك ! هل تعرف أنك غير موجود ولا توجد وثيقة واحدة تؤكد على أنك كُنتَ تعمل في التلفزيون ... rnوها نحن نسمع، قبل فترة قصيرة أن الدواعش لم يكتفوا بتخريب وسرقة البيوت ونسف الكنائيس وحرق كتب نفيسة ولا مثيل لها والكثير منها يزيد عمرها على أكثر من ألف سنة، ولم يجدوا أمامهم إلا عظام أجدادنا ومنهم جدي والد والدي وإخوته وآبائه، بأختصار تاريخنا وقاموا بتسوية المقابر پالارض وأحسست ذاك اليوم أن عظام جدي تتكسر ويخرج منها الدماء وتستجد بي . حتى المقبرة لم يتحملوا وجودها . rnأثرت في صديقي طلعت ذكريات مؤلمة، الصور هي جزء من لحظات تاريخ الانسان بكل صورها. rnمع الأسف، في فرنسا شاركت بعشرات المهرجانات السينمائية والمسرحية وفي العالم أجمع ، وقبل ايام عدت لأرى تلك الصور، ولكني لم أستطع تذكر الكثير ممن ظهروا معي ... أنه الزمن . rnملاحظة اخيرة، لقد نجحت في كتابة مقال قصير وأعطاء الموضوع حقه. لأني تذكرت أنك تحسد الأخ الكاتب كاكا أمين لقدرته على كتابة مواضيع قصيرة. rnوها أنت تنجح في كتابة موضوع ممتع وجميل ويلمس أحساس كل منا .