الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ملحمة جواد سليم.. حزن الحرية وثمنها
بقلم : ناصر الحجاج
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

إذا كان لكل مدينة روحها وهويتها التي تشكلها الطرز المعمارية لمبانيها ونصبها ومنحوتاتها التذكارية، فإن لكل نصب تذكاري في أية مدينة وجوهه المتعددة، على قاعدة الفن التشكيلي التي تعتمد المنظور (Perspective) لتحديد صفحة الذائقة الفنية وتمييز نسخ الإحساس بفرادة العمل الفني طبقا لمقولة "المهم زاوية التصوير" (It’s all about angle).

على هذا أتأمل وجوه كائنات التحرر في نصب الحرية أقف بعيدا قليلا، أقترب أكثر، أحدق في صفحة وجه هذا العمل الفني المتلاحم كجسد بأعضاء متعددة، أريد أن ألمس ذلك الخيط الشعوري في تلك اللحظة بالانبهار حين تصل روح جواد سليم وإزميله معا ليرسما ملامح الرجل العامل، المعتقل السياسي، الرجل المقاتل، والفلاح، .. المرأة الحبلى المرأة العاملة، الطفل، المرأة حاملة مشعل النور والتنوير ... حتى ملامح وجه الحصان أغمضها مطر الموت، حزن بملامح موت واندثار تعلو صفحة وجوههم، إنها وجوه كائنات ميتة، ولكن لماذا؟

لماذا لا تبدو وجوه هذا النصب ضاحكة مستبشرة؟ لما لم يزرع جواد سليم بذرة الفرح والغبطة في ملامح منحوتاته؟ ورغم فرادة نصب الحرية وما يتوقع من تشكيلي مبدع أن تتفجر كائناته التشكيلية بروح الابتهاج بنشوة النصر، تصدم الرائي وجوه تلك الشخصيات بصفرة الموت وانقباض عضلات الوجوه في استسلام مغصوب بالفناء وإرخاء لمرساة الوجع في بحر كآبة لا قاع لحزنها.

ثمة زاويتان (والفن زوايا) تفضيان إلى نفق خفي للإحساس بالحزن المشؤوم وبالموت المعتلي صهوة تلك الوجوه، أولاهما أن الفنان التشكيلي العراقي هو صنو الشاعر العراقي المولع بالحزن، والملتذ بالموت (لا أرى الموت إلا سعادة ...) حتى لتخرج منحوتة التشكيلي متجذرة في العدم والفناء كتجذر روح الشاعر السومري في حزن كلكامش على صديقه أنكيدو، فيستمر خيط الإنكسار من طوفان نوح حتى فيضان بغداد. وثانيهما أن لحظة غضبة الثوار وانتقامهم من جور الحاكم المستبد وإن اكتنزت بالابتهاج في عمق الكائن الثائر نحو تحرره، إلا أنها تشبه لوحة هوميروس وهو يصف اللحظة الأولى من (غضبة أخيل بن بيليوس) حيث تمتزج الأغنية بالموت والترنيمة بالحزن:

"غني يا ربة الشعر غضبة آخيل بن بيليوس

وعواقبها التي عادت بآلاف الويلات على الآخيين

وأودت بجموع غفيرة من أرواح الأبطال الباسلة الى هيدز

بعد ان تركت أجسادهم ولائم شهية للكلاب والطيور"

فنحن مع وجوه تماثيل نصب الحرية أمام لحظة دهشة قبض عليها إزميل المبدع العراقي فتوقف عندها الزمن الفني ليوثق انتصار إرادة الحياة، وإن كان ثمنها الموت، "فالحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين" ـ الإمام علي

http://magazine.imn.iq/articles/view.16974/

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 07-04-2015     عدد القراء :  4077       عدد التعليقات : 0