الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
السياب شموخ المكافح ورقة الشاعر
بقلم : ناصر الحجاج
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لا نعرف على وجه الدقة متى بدأ النحاتون يتجاوزون شكل شخصياتهم (أعمالهم)، وجوهها وصورها الظاهرية إلى تصوير دواخل شخصياتهم، أفعالها، وإنجازاتها، إلا ان المتتبع لعمل النحات العراقي نداء كاظم يدرك هذا التجاوز (المجاز التشكيلي لا اللغوي) وهذا الانزياح بين إطلالة السياب الرهيفة وتمثاله المهيب الموحي بالرفعة والشموخ الاسطوري،

حتى ليخال (من لا معرفة له بالسياب وحياته الواقعية) انه امام قائد فيلسوف أو مفكر سياسي مناضل، لولا تلك الحركة الجسدية الخفيفة الخفية التي يختزنها التمثال.

يروي أحد أصدقاء السياب الأحياء انه وجه هذا السؤال إلى النحات نداء كاظم: ما الذي دفعك إلى تجسيد السياب بكل تلك الفخامة التي لا تشبه طلته النحيلة؟ فأجاب إنه لم يكن يفكر بجسد السياب الناحل وتفاصيله البسيطة، إذ لم يكن في جسده ما يشد النحاتين من انحناءات وعضلات مفتولة، ولم يكن هم نداء كاظم في الأساس منصبّا على صنع نسخة حجرية من جسد السياب، بل أراد إبداع نصب يخلد السياب بما كان يمثل من حرية وكفاح ورفعة وشعر وحب جنوبي مذهل، فكان تمثاله بالفعل امتزاجا لكبرياء الأحرار، وشموخ المناضلين، وهمة المبدعين وانسيابية الذوق الشعري.

وأنت في حضرة تمثال السياب، الآن، أمام بطل قومي عراقي عشق أمته ووطنه وعاش هموم الطبقات العراقية الفقيرة؛ كان يخط المنشورات السرية بيده آخر الليل، ثم يوزعها خفية على المناضلين، تعرض للاضطهاد والسجن مرات كثيرة من أجل شعبه، وطرد من دراسته الجامعية بسبب مواقفه المعارضة للاستبداد، وفصل من وظيفته، وحظر عليه العمل مرات لأنه لم يرض بالاضطهاد، هو مناضل قومي فريد، جسد حبه للعراق «ليس سوى عراق»، الذي غناه طيلة حياته، فمن ذا يستطيع أن يفاضل بين إبداعِه الشعري، ريادتِه للتجديد في الشعر العربي الحديث، تحررِه من قيد العروض التقليدي، وتقدميتِهِ في الفكر الوطني التحرري، تقدُّمِهِ في التظاهرات المنددة بالاستعمار والتبعية واستعباد الشعوب.  

نداء كاظم جسد روح السياب الفنية والتحررية في تمثال أخذ موقعه في قلب مدينة البصرة، مطلا على شط العرب من جهة، مواجها نهر العشار من جهة ثانية، يصيح بالمبحرين على طريق السندباد، وبالعابرين نحو الخليج، أو المتجهين إلى شارع الوطن، أن الشمس كانت هنا أجمل، والظلام هنا أحلى، حيث ترقص الأقمار كالأضواء في نهر، لا لأن شاعراً أحب شمس بلاده المحرقة، وقمرها الخجول، بل لأنها كانت في العراق، ومتى ما عاد العراق إلى قلوب أبنائه، عاد كل شيء فيه أجمل وأحلى.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 17-04-2015     عدد القراء :  2058       عدد التعليقات : 0