الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
المعمار مكية: ثلاثية الإنسان والزَّمان والمكان

لا أتذكر حديثاً للمعمار محمد مكيَّة، البغدادي الأصل والانتساب والعاطفة، في فن العِمارة، ولم يقل فيه عبارته الملازمة للسانه: “الإنسان والزَّمان والمكان”، وأخرى مرادفة: “الواقع والمحتمل”. هذا بحدود عشرتي الدَّائمة له لنحو اثنين وعشرين عاماً، يقولهما ملازمتين لبدء وختم أحاديثه، فلا قيمة لعمارة لا تأخذ الإنسان بنظر الاعتبار ناهيك عن المكان والزَّمان، وما بينهما مِن واقع ومحتمل.

حاول مكيَّة الردّ على مَن يصفونه بالماضوي، لانحيازه إلى البيئة ضمن تراثها الاجتماعي والعمراني، وأَخذ تطور الزَّمن بنظر الاعتبار وما يتوفر للإنسان مِن فسحة للراحة والانسجام في العمران، ولكثرة ما أصطدم بالواقع أعترف أن آماله ستبقى محتملة التَّحقق، لكنَّ على يد جيلٍ آخر، يريد القول: هذا ما أريده وما لاسعة لي على تحقيقه فليبقى محتملاً.

رحل المعمار محمد مكيَّة (1914-2015)، بعد أن عاش قرناً مِن الزَّمان بين قرنين، العشرين والواحد والعشرين، وحتى لحظته الأخيرة عندما يتحدث عن آماله كأنه سيعيش لتحقيقها، سمعته كثيراً، وقُبيل وفاته، معجباً بمخيلة الشَّاعر عمر بن كلثوم (584 ميلادية) صاحب المعلقة الشَّهيرة، وقد حفظ مستهلها مِن أيام المدرسة في العشرينيات ببغداد الصَّاعدة آنذاك إلى الأمام: “ألا هبي بصحنك فصبحينا/ ولا تبقي خمور الأندرينا/مشعشعة كأن الحصَ فيها/إذا ما الماء خالطها سخينا”.

كان يردده ويُثني على مخيلة الشَّاعر، وكيف دخل مِن هذا المستهل إلى قصيدة ذات عمران فني؛ عندما وصف الجبال، كجبل طويق باليمامة: “فَأَعْرَضَتِ اليَمَامَةُ وَاشْمَخَـرَّتْ/ كَأَسْيَـافٍ بِأَيْـدِي مُصْلِتِيْنَـا”. وعندما أُذكره بأن صاحب ذلك المستهل المعجب به، هو القائل ما لا يعجبك: “إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ/تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا”! قال: هذا صحيح، ولكن البيت لزمانه. كان يشبه قصيدة الشِّعر العصماء بالعمارة العصماء، فعندما ألتقى بمحمد مهدي الجواهري (العام 1967)، خلال تدشين مشروع جامعة الكوفة، الذي أُلغي بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968، قال له: “أنا أنحت الحروف وأنت تنحت الحجر”، ومنها ظل مكية يقرن العمارة بالقصيدة.

كان يخطط لما بعد خمسين عاماً، أو مئة عام، أهم ما عنده أن يترك رسماً على ورق، قبل أن يرحل، وعندما فاجأته بالقول، كي يستريح مِن هاجسه ببغداد: “أنت على ما يبدو لا تعرف أو تتخيل ما يجري بالعراق وببغداد بالذات، هناك حوادث فظيعة لا تسمح لتصوراتك أن تتحقق، فأنت مُشرْق ومنَ بيده الأمر مغرب، و”شتان بين مشرق ومغرب”! كان يرد عليَّ بأن ما يحصل دورة زمنية ستنتهي بشخوصها وحوادثها، ولا بد مِن التهيئة لما بعدها، فإذا دار الزَّمن دورته سيأتي جيل جديد، لا بُد أن يجد مخططاً أو تصميماً يعتمد عليه في إعادة العمران.

يتخيل مكيَّة بغداد العباسية، بما قرأه وسمعه، مِن مجد تليد، لا يحسبه بحساب رجل الدِّين أو رجل السياسة، إنما بحساب واقعها المعماري وما كان يمخر في ماء دجلة آنذاك مِن أنواع السُّفن، وما رسمه يحيى بن محمود الواسطي (القرن السَّادس والسَّابع الهجريين)، لأجواء اجتماعية وعمرانية، فتراه يلهج باسم الفيلسوف الكندي(ت 256هـ)، والرَّسام الواسطي على أنهما مِن أمجاد بغداد، وعندما يتحدث عن بغداد لا ينسى أنها ذلك الرِّيف القديم، والامتداد البابلي، قبل أن يُشيد على كرخها أبو جعفر المنصور(ت 158هـ) دار حكمه المدورة، ثم تنتقل الخلافة إلى الرَّصافة، فتجمع بغداد عبر شاطئي دجلة.

ترك مكية أثراً في الهندسة المعمارية، بالمزج بين التراث المحلي والعصرنة، فمثله لا يوافق على تشييد عمارة على طراز روماني ببغداد أو نجد مثلاً، ولا يفرض بيئة الأهوار على الصَّحراء ولا الصَّحراء على الأهوار، هنا يأتي التزامه بثلاثية: “الإنسان والمكان والزَّمان”. فالمكان عنده لا يخضع لرغبة المعمار أو الحاكم بقدر خضوعه للمكان قبل كلّ شيء.

ربَّما ستقولون ما لك أنت والعِمارة كي تُقيم محمد مكية، وتتحدث عن جمعه بين الإنسان والمكان والزَّمان؟ هنا أتي برأي معمار جليل آخر، حفلت بغداد بفنه المعماري وثقافته، إنه رفعت الجادرجي، يقول في مكيَّة: «إذا أقدمنا على تقييم محمد مكية، بكونه معماراً عراقياً طليعياً أسس طرازاً معيناً في العمارة الحديثة، وسعى عن طريق هذا الطراز في ابتكار شكل معماري يعبر عن هوية جديدة إلى مجتمع معاصر عراقي، إضافة الى كونه أستاذاً معمارياً متميزاً ومؤسس (الكوفة كاليري)، الذي أصبح المركز الثقافي العراقي الوحيد خارج العراق، خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، واكتفينا بهذا، نكون قد أهملنا دور محمد مكية في تكوين العراق المعاصر…».

رحل محمد مكية وهو القائل قُبيل وفاته وما سجلته له: “عراقيتي عنيفة”!  قلت وما تقصد بعنيفة؟! قال: “حب العراق، وها أنا أراه ينحدر لا أعلم إلى أين”، وذرف دمعة. صحيح أن عمره تجاوز المئة، ولابد مِن نهاية، لكنَّ وجدي عليه كان مضاعفاً، فهو بالنسبة لي، والحاجة إليه في زمن عراقي لا يعوض الكبار ببديل، كما قال عبدة بن الطَّبيب (ت 25 هـ) في كبير زمانه قيس بن عاصم المنقري (ت 20هـ): “فما كان قيسُ هُلكه هُلكَ واحدٍ/ ولكنَّه بنيان قومٌ تهدَّما”(كتاب الأغاني).

  كتب بتأريخ :  السبت 25-07-2015     عدد القراء :  3846       عدد التعليقات : 0