الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العِراق.. وطنٌ في مهبِ الرِّيح!

انتهىت صلاحية الأعذار بأن العِراق مرَّ بدكتاتورية وحربين خارجيتين وحروب داخلية وحصار، فمَن يُقلب صفحات التَّاريخ سيعيش الفترات الماضية التي عاشتها هذه الأرض، بين حروب وغزوات وحصارات، لكنَّ الحياة تعود إلى طبيعتها، الأسواق تُفتح والمزاراع تُزرع والجسور تُعمر والأنهر تُكرى، وكأن شيئاً لم يكن.

وربَّما أقسى الحصارات والحروب قديماً عندما اجتاح هولاكو (ت 664 هـ) بغداد فسقطت والدولة العباسية كاملة بيده (656هـ 1258 ميلادية)، والأقسى من هولاكو حصار واجتياح تيمورلنك لبغداد بعد نحو مئتي سنةٍ، فلم يترك خزنة تحت الأرض إلا نبش عنها. ناهيك عن اجتياحات وحصارات العثمانيين والصَّفويين، والتي تتالت على العراق، حتى ردد العراقيون في أغانيهم: “بين العجم والروم بلوة بتلينا”.

يقول المؤرخ عباس العزاوي (ت 1971) في ذلك وهو يتحدث عن الدَّولة الصفوية: “لما قامت به مِن حروب ومناضلات بينها وبين الدَّولة العثمانية، في التَّنازع على السُّلطة في العراق، بصورة متوالية، وكانت مؤلمة جداً مما دعى أن يقول العوام في أغانيهم: بين العجم والرُّوم بلوى بتلينا، وهذه وإن كان موردها غرامياً، تعني التَّألم والتَّوجع مما جرى، فقد احترق الأهلون بين نيران الاثنين المتحاربين”(العزاوي، العراق بين احتلالين).

مع ذلك ظلت أرض اسمها “العراق”، وعادت تسقى بدجلة والفرات، وتخضر بساتينها، وتظهر الأرض غلتها، وسرعان ما تصبح الأوجاع تاريخاً، يقصه الأجداد على الأحفاد، مع غزوات الطَّواعين وبقية الأوبئة، لكن هناك مَن يقوم ويأخذ بيد النَّاس، ويدبر أمنهم وعيشهم، والأمثلة على ذلك كثيرة. نقول هذا، مع اعترافنا بتبدل الأزمان، وتطور حاجات النَّاس، فما كان كمالياً آنذاك صار ضرورياً الآن.

عندما نقيس ما حصل بعد أبريل (نيسان) 2003 نجد الأمر مختلفاً، وعلى حدِ قول محمد مهدي الجواهري (ت 1997) في “الرجعيون”(1929): “ومِن عجبٍ أن الذين تكفلوا/ بإنقاذ أهليه هم العقبات”. لقد استلمت أمر العراق نفوس مذمومة، وأفواه جائعة، أنيابها مكشرة منتقمة، مزقت وتمزق بأرضه وثرواته، وهم لا يشعرون بكبائرهم، يكتفون بمدح المنتفعين. كانت كل هذه الكائنات، التي تدير البلاد، في الوقت الرَّاهن من أرتال المعارضة، والصحف مازالت محفوظة، فيها تصريحاتهم وأمانيهم للشعب العراقي آنذاك. غير أنه بعد تسلم مفاتيح الخزائن، وِمن اليوم الأول، تغيرت الضمائر قبل الوجوه، وصارت السُّلطة طريقاً لنهب المال، تصوروا أن المسؤول عن جماعة تسرق البنك وتقتل الحراس يُكافأ بوزارة، وقاتل المتظاهرين السلميين يُكافأ بنيابة رئاسة كبرى، وقاطع الطُّرق وسارق مال حراسة يُكافأ بنيابة برلمان، فأي دولة هذه؟ وعن أي رفاهية وديمقراطية يتحدثون؟

حاولتُ أن أجد شيئاً، في كتب التَّاريخ، يُشبَّه أو قريب مِن الشَّبه، بالجماعات المتنفذة، فلم أجد، ولألف عام مضت. لا أقول هذا على المجاز إنما على الحقيقة. فماذا يحصل، هل نحن في زمن الدجّال، حسب الروايات الدينية، وما كنا نسمع من الكبار أن هذا الأعور الدَّجال عندما يظهر ينثر المال والجواهر على النَّاس كي يتبعوه؟ فعندما ندقق في أمر هذه الزُّمر المتسلطة، تحت أي عنوان، نجد فيها أشياء مِن أوصاف الأعور الدَّجال، ففي كل انتخابات ينثرون ما لا يملكون مِن المال، ومنهم طغى وأخذ يوزع المسدسات على، مع أنه يشتم الماضين صباح مساء، على الموبقة نفسها، لكنه لا يملك سوى سلوكهم ويطبقه بأبشع صورة.

إذا قلنا لا يخجلون، فالوصف لا يرف له جفن من جفونهم، بل يعتبرون التعبير بإطلاق الألسن فيهم ضرباً من الحرية والدِّيمقراطية، كي يبرهنوا أنهم ديمقراطيون فعلاً لا قولاً، فليُقال ما يقال في عوراتهم، لكنهم غير مستعدين على التنازل قيد أنملة عن امتيازات وهبتها لهم الدِّيمقراطية بالدعاية الدِّينية والوطنية الكاذبتين، ولمعروف الرَّصافي (ت 1945): “أُحبولة الدِّين رقت مِن تقادمها/ فاعتاظ عنها الورى أُحبولة الوطنِ”(الديوان)، فإن لم يؤثر ذاك سؤثر هذا! لأن الدِّيمقراطية لديهم تعني العبث بالمال مثلما العبث في السياسة. لقد جاء هؤلاء منتقمين مِن ماضيهم، ومَن يذكرهم بشحة الحال، فزادوا من الانتقام في الشَّعب العراقي، فالقتل قَتلوا، والنهب نهبوا، والسلب سلبوا، فما معنى الانتقام إن لم يكن تلك الأفعال؟

لقد صادروا الدِّين والوطن، وها هم النَّاس تركوا التوجه في الاحتجاجات إليهم، بعد أن عرفوا وتأكدوا أنهم ليسوا بهذا المستوى، فتوجهوا إلى باب المرجعية الدِّينية، وسيأتي يوم مِن الأيام، إذا ما ظل المرجع الديني مخالفاً لطبائعهم وديدنهم السياسي، سيُرحل عن هذه البلاد، سيًقال له ما قاله رجال الثورة الإسلامية الذين خالوفوا توجههم: أنتم منحرفون؟ ومَن يدريك سيُخرج أتباع الولي الفقيه مراجع النجف وأعلام مدرستها الأحياء، على أنهم ضد الثورة والثُّوارِ، ولم يتركوا لهم حتى مَن يوصون بالصَّلاة على جثامينهم، بالضبط مثلما فعلوها بمراجع دين مِن قَبل.

نعم، المرجعية لها مسؤوليتها، لأنها غُشت بفلان وفلان، وأحدهم رأيته وجهاً لوجه، عند تشييع المعمار محمد مكية (22 تموز/يوليو 2015)، ومدَّ يده، فعزَّ عليَّ أن أمد يدي إليه، وشحت بوجهي عنه، ففي تلك اللحظة، وما كان في داخلي مِن حزن شديد على الفقيد، حصيت بومبقات ذلك الرجل وأكاذيبه هو وصحبه، فثقلت كفي عن مطالسته.

نعم المرجعية سمعت كلامهم ودفعت بهم إلى الواجهة، وهي مدعوة الآن إلى أن تسمي الأشياء بأسمائها: فلان وفلان، ولا يكتفي خطيبها بالتعميم، لأن ذلك يطيل من وجودهم ويسمن في رقابهم. لقد تجاوز هؤلاء مدى الأعراف كافة، وتخطوا أشهر اللصوص والكذابين في التاريخ حيلةً، وكلما رجونا ذرة خير أتوا بتلال مِن الشَّر، حت صار العراق تحت رايتهم في مهب الرِّيح، وسيقال عنه كانت هناك أرضاً اسمها “العراق”، لقد خذلونا جمعهم الدِّين والدنيا، واضروا بالاثنين، فمن أفعالهم أخذ النَّاس يشككون بدينهم، ومَن أحب الحسين أخذ يميز بين حُسينه وحسينهم.

  كتب بتأريخ :  السبت 08-08-2015     عدد القراء :  3822       عدد التعليقات : 0