الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عدن.. أين الذين أحسنت رفادتهم؟

عندما رست سفن البحرية البريطانية على جرف صيرة، المطل على خليج عدن (19 يناير 1839)، ما كان البريطانيون يتوقعون أنهم سيمكثون فيها حتى (30 نوفمبر 1967)، وأن يخرجوا منها بقوة السَّلاح، وأن تحن عدن لأيامهم، حتى سمعناهم يقولون بحنين على نظام ونظافة وثقافة “أيام بريطانيا”! بعد أن وجدت نفسها تحت رحمة الاجتياحات، واقساها كان اجتياح علي عبد الله صالح (صيف 1994) برفقة السلفيات الجهادية، ثم تلاه اجتياحه الأخير برقة الحوثيين.

كان ميناء عدن الأفضل على طريق الهند، ومِن ذلك الوقت أخذت تتجمع بعدن أجناس البشر مِن شتى القارات، واحتفظت بانفتاحها الاجتماعي، الذي لم يقمعه إلا حلفاء حاكم صنعاء بعد حرب (1994)، والذي حاز لقب “المخلوع”، حيث تحالف مع القاعدة عليها ثم مع الحوثيين، هكذا هي سيرة الرَّجل، سلسلة مِن تحالفات الشَّر.

قدمت عدن خلال تاريخها الاشتراكي القومي، مِن رفادة للنخب الثقافية، أو مَن يعتبرون أنفسهم نخباً، من الذين طافوا في طرقاتها، وتنقلوا بين قصورها الرسمية والسياحية، وأنعشتهم نسائم شواطئها بعد لفح الرمال الساخنة القادمة من قاع البحر وعرض الصحراء. تحمل بعض هذه الاسماء من الألقاب الرفيعة: المفكر والعالم والمناضل والشاعر الكبير، احتفت بهم وقلدتهم أوسمة من طراز  14 اكتوبر  و 22 يونيو، وهما وسامان رفيعان، ومنحتهم ملحقات هذه الأوسمة، من مخصصات مالية وتسهيلات دبلوماسية. حتى أن منهم مَن وصل ببلاده إلى موقع المسؤولية ولم يتذكر جواز عدن الدبلوماسي، وحينها كان يُقدم نفسه عدنياً.

كانت عدن تستقبل، على مدار الساعة، قادمين من عواصم شتى، يترجلون من الطائرة منفوشي الريش، يقف بين أيديهم العدنيون، كأنهم هبطوا من السماء، أحدهم قال: “الشعر اليمني له خصوصيته”، فراحت العبارة مانشيتات في الصحف. فتواضع عدن ومغالاتها بالطيبة والبساطة جعلت لهؤلاء ألقاباً؛ فالكاتب أو المترجم أصبح مفكراً والمتجه صوب الشعر أصبح شاعراً معروفاً، والذي سمع برامبو أصبح صديقاً شخصياً لعائلته بباريس، وجاء يبحث عنه في أماكن بيع الفحم الحجري بالتواهي حيث كان يعيش الشَّاعر، تركها في منزله الذي ما زال قائماً بكريتر وسط عدن.

لم تر مدينة عدن ضيوفها المثقفين إلا من خلال شاشة التلفزيون، وهم يتكلمون عن باعهم الابداعي، يردون على أسئلة مقدم البرنامج بهدوء وتمثل خشوع العلماء، وفي اليوم الثاني تهلُ هذه الأسماء على المدينة، عبر صحف “14 أكتوبر ” و”الثورة” و”صوت العمال”، وجميعها أُحرقت خلال اجتياح 1994، ثم تُعاد المقابلات والتصريحات في مجلتي “قضايا العصر “و”الثقافة الجديدة”، وهكذا تُهرس رؤوس العدنيين هرساً باخبار النخبة، إضافة إلى رؤية هؤلاء عبر زجاج السيارات الرسمية الملون، تمخر بهم عباب الريح التي تلفح أهل المدينة.

لقد تنكر الأصدقاء لعدن بعد أن دارت عليها الدوائر، وجلدتها السياط ورجمتها الحجارة، فحسب فتاوى الشيوخ الفاتحين (1994) أنها مدينة زانية، وشواطئها مرذولة، ومساجدها ضرارية شيطانية، والآن جاء دور مشائخ الحوثية، بعد فتح الطريق مِن صعدة إليها، فلم يسمع أنينها مثقف من أولئك المثقفين الذين ادعوا عشقها وتكلموا عن رفادتها واحتفائها بهم، هل كان ذلك نفاقاً وطراوة لسان وتجارة كلام، فهناك من المثقفين منْ أسرع لتبديل جلده مع متطلبات المرحلة.

كانت عدن ومازالت منبسطة الشاطئ ومحتملة لنزق ضيوفها، مدركة أن ذلك رأس مالهم، تبتسم لنفاقهم، رغم انفجاراتها الشديدة والمتكررة بين عقد وآخر، فمن عطشها في بعض تلك المواسم تعود القهقرى إلى آبار الأجداد، الذين استقبلوا وودعوا جماعات من الضيوف، منهم القراصنة ومنهم المستكشفين ومنهم الطرداء والجياع.

فالمكان يفرض على المدينة حقوق الضِّيافة لهذا التنوع، وخير ما ترك هؤلاء الأجداد للأبناء والأحفاد تلك الآبار  وظلال المساجد، وشجيرات تخفف خضرتها من قسوة الجبال الجرداء، شجر لا يؤكل ولا يستظل فيه يسمى “تفاح عدن”. على عادتها ظلت عدن مدينة سمحة وكريمة بجغرافيتها قبل تاريخها. أما ضيوفها الجدد فهم من نوع آخر، دخلوها من أوسع الأبواب، لا هجرة ولا استكشاف، بل ادعوها وطناً آخر، يريحون فيه من غربتهم بأوطانهم، أو يجتازون بها المطارات والموانئ والحدود البرية، فقد ادعوا اسمها وتاريخها، وهي لم تبخل عليهم بهذا.

فماذا حصل وأغلق ضيوف عدن المحتفى بهم في المواسم أو من ضيوفها الدائميين عيونهم وأفواههم، هل تبدل المواسم يفرض بهذه العاجلة تبدل العواطف؟ أم هذه هي الطباع؟ ماذا حصل لتسكت النُخب، وكانت عدن تذيع قصائدهم وتشتري كتبهم وتوزعها على تلاميذ المدارس والكليات تشجيعاً، بمناسبة أو غير مناسبة.

هل حجبت عدن عن فلان أوعِلان شواطئها، فأين غيرتهم على حبات بُن يافع التي قالوا فيها الكثير، أيام كانت يافع حكومة بعدن، أم أن عدن لم تعد كما هي؟ أين فلان وفلان  وكانوا  يُستقبلون كقادة أمميين وزعماء قوميين عرب. سكتوا وأطالوا السكوت، ومبكراً تحولوا إلى ديوان المخلوع بصنعاء، بعد أن جمعت له عدن وصنعاء.

مر اجتياح (1994) بما فيه مِن قسوة لا مثيل لها، بلا أدنى تضامن، ولو بكلمة وحرف، لهذه المدينة. هل أساءت عدن لقضية مِن قضايا العرب، إلى درجة تقوم صحف بعضهم بدور البوق في تلك الحرب، وتعتبر عطش الأطفال انتصاراً للوحدة اليمنية ودفاعاً عنها، الوحدة التي ذبحها المخلوع بعد يوم مر على التوقيع عليها؟ أين هذا وذاك من المثقفين والسياسيين، أهكذا تعطب الذاكرة؟

إن أنبل العلاقات ما حفلت به المدن، في أوقات الشدائد، فهي المكان بكل تفاصيله من أشياء وعواطف، ليس هناك ذكريات بدون مكان وموقف إنساني، فعبره يستلهم الناس ذكرياتهم، وهل هناك صداقة أو عشق بدون مكان وألم ووفاء وعطاء؟ عدن كانت مكاناً لعقود من ذكريات هؤلاء النُّخب، فمهما حاولوا النسيان والتخلي عن جزء من ذكرياتهم فالماضي لا يُجزء، يوم أتوها بأتراحهم ففتحت لهم ذراعيها، والأسماء مواقف أن أرادوا أن تكون لهم أسماء لا تغيب عن ذاكرة طفولة عدن وشبابها، فهي مدينة كباقي المدن لها مخيلة وعاطفة، تتوجع مِن نكران الجميل ومِن ذبحها قرباناً لوحدة غزتها مرة برفقة ميليشيا القاعدة وأخرى برفقة ميليشيا الحوثي.

  كتب بتأريخ :  الأحد 20-09-2015     عدد القراء :  3831       عدد التعليقات : 0