الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
أوروبا.. التي حولت خيالاتنا وقائع

احتشد لاجئو المناطق الملتهبة على بوابات أوروبا، في مشهد فظيع، يشير إلى أن بلدان اللاجئن غدت لا تُطاق، وجثة الطفل السوري، التي قذفت بها أمواج البحر إلى الساحل، تُشوه وجه الحاضر، ولا شيء في تاريخ تلك الأنظمة ما يُعتشى به، جيوش كان تأسيسها لصناعة الانقلابات والقهر.

يسأل الكثيرون: لماذا صارت أوروبا، الأمس واليوم، شاطئ الراحة للمعذبين الفارين مِن حتوفهم. صحيح، لكلِّ شعب أمجاده، لكن الأوروبيين لم يتحدثوا كثيراً عن أمجادهم، أحالوا كل ما في الماضي مِن خير وشر إلى المتاحف، وراحوا واستراحوا، بينما ظلت منطقتنا تعيش ماضيها بكل دقائقه، فالمتاحف عند مَن يريد إقامة نظام إسلامي حرام، ومشهد ذبح عالم الآثار السوري، تحت ظل أعمدة تدمر، كان رسالة قوية على إفلاس الحاضر ووحشيته.

دعونا نُذكِّر بعجائب تخيلها الأولون، بين المعجزة والسحر، لم يقو العقل على تحويلها إلى واقع. كان أبرز الأسباب التي جعلت الأوروبيين أقوياء، نلجأ إليهم في الصغيرة والكبيرة، هو تحويل الخيال إلى حقيقة وبسلطان العقل. فالشعوب التي لا تتمكن مِن صناعة إبرة خياط، لا تنفعها الكثرة ولا التاريخ التليد. لقد تخيلت منطقتنا المشي على الماء والطيران في الهواء واستخدام الأشعة في كشف سرائر الأجسام، وتخيلت أدوات الأنذارات المبكرة، واستخدمت التفاحة عند الحديث عن سقوط الأجسام (المعتزلة مثلاً)، لكن لم تخرج تلك الخيالات من حيز الوهم والعجب.

سنأتي على النزر منها كشاهد: «إن الله عز وجل إنما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه والذاهب في عمق الأرض، قالوا لولا مماسة شُعاعه لما وراء الأجسام السائرة لما رأى ما وراءها ولا علمها» (البغدادي، الفرق بين الفرق)، هذا ما نُقل عن الجاحظ (ت 255هـ) عن جدل كان بين المتكلمين آنذاك. ما حصل أن أوروبا أخذت تكشف لنا المياه الجوفية والنفط تحت طبقات الأرض بالموجات الصوتية، واخترعت أجهز الأشعة لمعرفة ما في الأجسام من أمراض.

طُرحت فكرة المشي على الماء وفي الهواء، ودارت ككرامة عن معروف الكرخي (ت 200هـ): «لو قيل إنه يمشي في الهواء لصدقت» (ابن الجوزي، مناقب الكرخي)، وهذه العجيبة التي إذا حدثت تعاملنا معها ككرامة، صارت واقعاً علمياً، ولكم رؤية الماشين في الهواء. كذلك كان الكرخي يهم بالمشي على الماء بكرامة أيضاً، فنقل عنه: «ما مشيت قط على الماء، ولكن إذا هممت بالعبور جمع لي طرفاه فأتخطاها» (المصدر نفسه). كذلك ذُكر أن أصحاب كرامات فرشوا سجاجيد الصلاة في الهواء وعلى الماء. أقول: وهل هناك شك بإمكانية جمع طرفي الماء لمرور القطار في أعماقه، أو التحليق في الهواء خارج الطائرة عبر آلة؟

وردت في كتب التراث الإسلامي حكايات عجيبة غريبة، فيها تمني لِما يستخدمه العلم الحديث اليوم من آلة عملاقة لكشف الفضاء، وتقريب البعيد القاصي، كأعجوبة زرقاء اليمامة. تحدث النويري (ت 733هـ) عن مرايا استخدمت لكشف خيانة الأزواج فإذا «اتهم رجل امرأته بزنا نظر في تلك المرآة، فيرى وجه المتهم فيها، وأن بعض الناس أُتهم فرأوه فيها، فقتله الملك، فجاء أهله إلى المرآة حميةً فكسروها» (نهاية الأرب).

نسمع الآن عن أجهزة كشف الكذب، بينما ضاع خبر مرآتنا، وظلت حكاية بلا أثر. وجرى الحديث عن «مرآة بابل» التي يُرى فيها الغائب، و«مرآة آدم» نظر فيها أولاده «بعد انتشارهم في الأرض». قيل حملها المسلمون إلى معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) من أرض القيقان، فشوهدت بين ذخائر الأمويين في الخلافة العباسية (المصدر نفسه).

تداول الأولون ما يسمى اليوم بأجهزة الإنذار المبكر؛ تمثال يشير بسبابته اليمنى نحو الشمس، يدور معها حيثما دارت، وآخر وجهه في البحر متى صار العدو منهم على نحو من ليلة سُمع له صوت هائل، ووزة نحاسية إذا دخل المدينة غريب صفرت.

تلك خيالاتنا وهذه صناعاتهم، فماذا حصل؟ نهرب أفواجاً أفواجاً إلى بوابات أوروبا، طمعاً بأمن وإطعام مِن جوع؟ أين الخلل، هل في آلاف الفتاوى والخطب التي تحذرنا مِن العقل؟ تظهر بيننا جماعات تذبح وتسلخ وأخرى ترى أن الكون ما وجد إلا من أجل نفر مِن الأولياء المعصومين! وإذا كان الأولون تخيلوا وأوروبا حولت تلك الخيالات إلى وقائع بسلطان العقل، فعقول المتأخرين عجزت حتى عن الخيال، وهذه طبيعة المستهلكين، هناك من يُفكر عوضاً عنهم. أرجو أن لا أكون قد قدمتُ دليلاً لمن يدعي أنها «بضاعتنا ردت إلينا»! وهذا عزاء الفاشلين، إنما صاحب البضاعة مَن جعلها حقائق لا كرامات ومعجزات أولياء.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 22-09-2015     عدد القراء :  3786       عدد التعليقات : 0