الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
المكان.. تغريدة الشَّاعر وهويته

قرأتُ مؤخراً كتاب الأديبة الفلسطينية ليانة بدر “تغريدة الشَّاعر أثر المكان على الهوية في أعمال محمود درويش”؛ تستهل ليانة مقدمة كتابها بالعبارة الآتية: “ظل محمود درويش الصَّوت المعبر فنياً عن تطورات القضية، في منعرجاتها الطَّويلة والمتغيرة، كما اعتبر نتاجه الأدبي دليلاً حيَّاً على مسيرة شعب فقد أرضه، واضحى حريصاً على استعادتها بما تشكله مِن فضاء وهويَّة، سواء عبر المقاومة بأشكالها المتعددة، أم عبر النُّصوص الإبداعية”. عندما تقول ليانة القضية بلا تسميتها فتعني لها وللشَّاعر أنها القضية الوحيدة أو الأم، لكنها في الظرف الحالي، الذي تعيشه المنطقة، مع هذا التشريد، تصبح واحدة مِن قضايا، فالتشريد أو التهجير واحد، وكل مشرد أو مهجر لا يجد عودته قريبة، بل نوى عليها، هجرة أبدية.

بمعنى تعددت القضايا، وضعف الالتفات لقضية ليانة بدر ومحمود درويش، فبعد عقود مِن خواء المنطقة صار يلزم الوصف أو التَّسمية أو التعريف، أي القضايا؟ القضية العراقية أم السُّورية أم اليمنية أم الليبية أم الفلسطينية وغيرها! فقد تعددت القضايا وبات لا يُميز بعضها عن بعض، وتبقى هجرة المكان واحدة، وربَّما تكون أخف وطأة على المهاجرين الأطفال، حتى استوطنوا المنافي فصارت لهم أوطاناً بشبابهم، تكيفوا في أجوائها، وألفوا قصص ملاعب وعشق، لكن موهبةً شعرية مثل محمود درويش تحفر في ذاكرته المشاهد، وتحيا بكلماته المدن.

عندما تغرب محمد مهدي الجواهري(ت 1997)، في بداية الستينيات، مِن القرن المنصرم، إلى براغ، ولم يترك وطناً للأغراب، ولم تنتزع أرضه، وكان مطمئناً أنه يعود بين يوم وآخر، ليس كما ترك وطنه محمود درويش، أو أي فلسطيني آخر. ومع ذلك جاءت رائعته “يادجلة الخير” عبارة عن مناحة على النهر، حتى صارت القصيدة بمكان دجلة بالنسبة للمنفيين والمهاجرين، وربَّما أصاب دجلة الجفاف وتبقى القصيدة جارية، فالنهر قاب قوسين أو أدنى مِن التصحر. مما قاله لدجلة وبالتالي لبغداد فالأخيرة وجدت مِن مائها: “حييتُ سفحك عن بُعدٍ فحييّني/ يا دجلة الخير يا أُم البساتين/ حيَّيتُ سفحكِ ظمآناً ألوذ به/لوذ الحمائم بين الماء والطِّين/يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه/على الكراهةِ بين الحين والحينِ”. إلى قوله: “يا أُم بغدادَ مِن ظرفٍ ومِن غنجٍ/ مشى التبغددُ حتى في الدَّهاقينِ”(الديوان). التبغدد هنا “التحضر” أو “التمدن”، ويغلب على الظَّن أن أول مَن نحته مصطلحاً أبو حيان التوحيدي(ت414هـ)، عندما قال: “الخراساني إذا تبغدد”.

ما حال بين الجواهري والمكان السِّياسة، لكنه تحول إلى ما هو أبلغ من المكان نفسه، فالشواطئ تتقارب والأنهر تضيق، وتبقى دجلة قصيدة بعد جفاف الماء ويبس البساتين، وهي بالفعل بدأت تضمحل، فالماء لم يعد صافياً ولا جارياً كما كان في زمن كتابة القصيدة، ولم تعد تمخر فيه السفن ذات الشراع، التي تمنى الشَّاعر أن يُحاك كفنه منها.

لذا وأنا أقرأ كتاب الأديبة ليانة بدر وجدت المدن، التي فارقها درويش على الكراهة كمدنه الفلسطينية واللبنانية، أو على الرضى كمدن السفر والمنافي، حيَّة في جغرافيا قصائده، انشددت لرؤيتها على ما صورتها القصائد، لكنها تغيرت، هُدم ما هُدم منها وتصحر ما تصحر، فما حاولته ليانة أنها رسمت أطلس المدن عبر قصائد محمود درويش، فهي الأخرى قلقة على الهوية ولها تغريدتها فيها. إنها الفلسطينية التي تعيش الهاجس نفسه، وربَّما سواها لا يصرف وقتاً ولا يعاني صبراً لتدوين ذاكرة المدن مِن قصائد الشَّاعر. بمعنى أن غرض الكتاب للقضية نفسها، عبر تغريدة الشَّاعر.

وأنا أكتب هذه الكلمة، تذكرتُ “أطلس أسماء الأماكن في الشِّعر العربي” (المعلقات العشر)، لمؤلفيه السعوديين: محمد بن أحمد الرَّاشد وعبد الله بن صالح العنيزان. صحيح أن المؤلفين لا يكتبان مِن قلق على هوية، ولا يعانيان فراق مكان، لنفي أو هجرة، لكنهما استدلا على الأمكنة، من قرى ومدن مِن القصائد لا مِن الواقع الجغرافي، وكأن لم يبق من تلك المدن غير القصائد، التصور نفسه عن بقاء أو خلود قصيدة الجواهري “يا دجلة الخير”، مع احتمال ضياع دجلة نفسه. هذه أهمية تدوين تغريدة محمود درويش عن المدن والقرى التي ظلت حيَّة في ذاكرته، ولأنه الشَّاعر تراه أنقذها في قصائده مِن الضياع كأسماء وأشياء.

إنه واقع مخيف أن تغيب فيه المدن وتضمحل، بكوارث بشرية أو طبيعية، وتبقى تحملها القصائد، فلم يبق من بيروت في مخيلة درويش، وذلك الوجود الفلسطيني سوى: “بيروت ليلاً/ آه، يا أفقاً تبدى/ مِن حذاء مقاتل/ لا تنغلق لا تنغلق أبداً”. لم يبق مِن الأرض التي شهدت مسقط رأس الشَّاعر ، وهناك ولدت تغريدته الأولى سوى: “نحن في حلٍّ من التذكار/ فالكرمل فينا/ وعلى أهدابنا عشب الجليل”.

أكثر الأشياء حضوراً في القصائد، منذ كان الشِّعر، الأمكنة، فما كانت المعلقات تدلنا على الدُّخول وحومل واليمامة والأندرين وغيرها، بعد ضياع معالمها، لولا أنها كانت مواضيع لتلك القصائد الخالدات في تاريخ الأدب العربي. ليس دائماً تحول السِّياسة بين الشَّعر والمكان، لكن بالنسبة لمحمود درويش، وحسب ما عرضته الأديبة ليانة في “تغريدة الشَّاعر”، حالت السِّياسة بينه وبين مدنه، ولولا هذا الحاجز ما استحالت إلى قصائد، أكثر قوة على البقاء مِن حيطان المدن نفسها. مثلما لولا اغتراب ومرض بدر شاكر السَّياب(ت 1964) ما صرخ: “يا خليج ياواهب المحار والردى/أكاد أسمع العراق يذخر الرعود/ ويخزن البروق في السهول والجبال/حتى إذا فض عنها ختمها الرِّجال/لم تترك الرِّياح مِن ثمود في الواد مِن أثر”، لكن الريح العاتية لا تضر القصيدة كضررها في الصّخور والأحجار.

عدا فكرة خلود المدن، المعرضة للضياع والغياب، في القصائد؛ لفت نظري في كتاب “تغريدة الشَّاعر” أنه بحث جاد، ولغة خالية مِن تقعر ما يُكتب اليوم، واضح العبارة خالٍ مِن التهويم، موثق المظان. أقول ذلك لكثرة ما يصدر مِن كتب، تتركها وأنت في مستهل المقدمة. ما فهمناه مِن الكتاب أن محمود درويش، وأمثاله شعراء كثرٌ، لولا المكان ما كانت لهم قصائد، إنه التغريدة والهوية.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 28-09-2015     عدد القراء :  3873       عدد التعليقات : 1

 
   
 

Guest

انه مقال رائع لباحث متمكن سلمت الإيادي