الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عبدالناصر.. ذكراه وانقلابات العراق!

قرأتُ عن تذكر الرئيس المصري جمال عبدالناصر، في ظل الأوضاع العربية المتردية، قبل «الرَّبيع العربي» وبعده، على أن عصره كان ذهبياً للعرب، وأنه مازال المنتظر المُخلّص، وكنتُ قد سمعتُ تعليقاً، حال سماع نبأ وفاته (28 سبتمبر 1970) قبل (45) عاماً: «أشد وطأة من النكسة» (1967)، من دون تذَكر دوره وأصحابه عن أيام النكسة أو النكبة السِّتة، والرجل كان شجاعاً عندما تحمل المسؤولية، ولم يتهرب منها تهرب أصحابنا من ضياع الموصل.

لا أخفي إعجابي بعبدالناصر، وبمرور الأزمات، لم يبق منه سوى ما شاع عن نزاهته الشخصية، وهذا ما جعلنا أيضاً نغرم بعبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، قياساً بمَن آل إليه الأمر الآن. لكن لا يكفي ذلك تقييماً في السياسة، فيمكن أن يكون الإنسان مضاهياً لمعروف الكرخي (ت 200هـ) في نزاهته، ومسرفاً في الأخطر من الأفعال. لا أتحدث عن عبدالناصر مع أهل مصر ولا سوريا، ولا تشجيعه لانقلاب ليبيا (1969)، على نظامها الملكي النزيه، ولا أي نظام آخر لم يساير طموحه، فكلٌ يعرف شعاب بلاده ويعبِّر عنها، إنما أتحدث عما أصاب العراق من سياسته وآلته الإعلامية الموجهة لبغداد الملكية ثم الجمهورية.

قد يقول قائل: ما سبب الكتابة عن الرجل في هذا الظرف؟ الجواب: كان تردد اسمه في الندوات، الباحثة عن مخرج لما تعاني منه المنطقة، يكفي سبباً، وآخرها ندوة أصيلة «العرب.. نكون أو لا نكون» (6-8 أغسطس 2015)، بوهم أنه المنقذ. وجد الذين ما زال سِحر عبدالناصر يلبسهم، يبحثون عن شخصية مستنسخة منه، بل وجدتُ بعضهم نسى أنه قد مات قبل 45 عاماً، حتى جاء «الإخوان»، رفاقه ثم خصومه، إلى الحكم (2012-2013) ومضوا بثورة شعبية، بعد الوهم بمُلك الدِّين والدنيا.

بعد وصول الأمير فيصل (ت 1933) إلى العراق وتتويجه ملكاً (1921)، انطلقت البلاد الخاملة إلى الأمام، فتأسست المدن، وزهت باقتصادها، وما هي إلا سنوات وتعود بغداد قبلة للدارسين، وأخذت الطائفية تنسحب رويداً رويداً بأثرها العثماني. لكن كل ذلك لم يعجب عبدالناصر، وظل يسعى عبر الإعلام والسفارات لاستنساخ جماعة «الضباط الأحرار» في كل بلد تطوله يده، وأخذ يُقدم العراق على أنه مستعمَر، وملوكه وزعماؤه العملاء.

كان الشريف حسين (ت 1931) قد حدس ما قد يحصل لنجله، قبل ثورة عبدالناصر وتصديرها بثلاثين عاماً، فقال للوفد الذي ذهب لإقناعه: «لكني أخشى أن يعامل أهل العراق فيصل كما عاملوا جده الحسين» (الوردي، لمحات اجتماعية). تحقق حدس الحسين، لكن في حفيده فيصل وعمّاته وبقية الأسرة.

ومعلوم أن تنكر الكوفة للحسين (قُتل 61هـ)، بعد استدعائه، ظل له صدى في النفوس، فِمن قبل قالها حفيده زيد (قُتل 122هـ) لأبرز أصحابه: «أتخاف أهل الكوفة أن يكونوا فعلوها حسينيّة؟! قال: جعلني الله فداك، أما أنا فو الله لأضربن بسيفي هذا معك» (الأصفهاني، مقاتل الطالبيين). فإذا وجد زيد شخصاً مخلصاً له لم تُترك لفيصل ناعية تنعيه. وكانت إذاعة «صوت العرب» التي أُسست لغاية التهييج تُطرب بمذبحة القصر الملكي، ويظهر مريد عبدالناصر والرجل الثاني في الثورة، يُحشد على سكان القصر العُزل عبر الإذاعة: «اقتلوهم اسحلوهم»!

ما هي إلا أسابيع ويختلف قادة الثورة على إعلان عبدالناصر رئيساً لمصر والعراق وسوريا، فتحول التأييد إلى تهييج جديد، ويُصر الناصريون على الوحدة الفورية، وتعود «صوت العرب» إذاعةً لانقلاب جديد، الدم فيه بلغ الزُّبى (8 شباط 1963)، وتستمر الانقلابات، ويأتي يوم عطوف على العراق يصبح فيه القانوني العريق عبد الرحمن البزاز (ت 1973) رئيساً للوزراء، ويبدأ بترتيب البيت لعودة الحياة البرلمانية، وإذا بعبد السلام عارف يُقتل (1966)، ويصل وفد عبدالناصر لاختيار الرئيس الجديد، ويحرمنا مِن البزاز ونزاهته وإخلاصه، بعد أن ساهم بتقويض نظامنا الملكي، ثم الجمهوري الذي كان يتطلع قُبيل إسقاطه إلى دستور وحياة مدنية.

اعترف مبعوث عبد الناصر، أمين هويدي (ت 2009)، بمنع البزاز من الرئاسة: «ذهبنا إلى المطار (ببغداد)، واستقبلنا عبد الرحمن عارف (كان بموسكو)، وكان يبكي بشدة ومنديله على عينه واصطحبناه إلى العربة وعزيناه فاشتد بكاؤه. وهنا قال له عبدالمجيد فريد في خبث: اتفضل اركب يا سيادة الرئيس.. وأصبح اللواء عبد الرحمن رئيساً» (50 عاماً من العواصف). وقد برر هويدي مرشح مصر بعبارة: «غير ضار».

الوهم كل الوهم أن يكون عبدالناصر منقذاً، مطلوب استنساخه لحل مشكلات المنطقة اليوم. أقول: هذا ما ساهم به عبدالنَّاصر في أحوال العراق. أما إيذاء استقرار البلدان الأُخرى فحدِّث ولا حرج.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 30-09-2015     عدد القراء :  3594       عدد التعليقات : 0