الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
متظاهرو بغداد.. يسألون عن رئيسهم؟

حكم بغداد منذ بناء مدينة أبي جعفر المنصور المدورة (145هـ)، على جانبها الغربي (الكرخ)، واحد وثلاثون خليفة عباسي، مِن سبعة وثلاثين خليفةً (132-656هـ)، ذلك إذا علمنا أن دار أبي العباس السَّفاح (ت 136هـ) كانت الأنبار القديمة، قريباً مِن الفلوجة الآن، وأن خمسة خلفاء بداية مِن المتوكل (ت 247هـ) وحتى المهتدي (ت 256هـ)، اتخذوا سامراء عاصمةً.

حكم بغداد بعدهم مِن الإيلخانيين أحد عشر سلطاناً، بداية مِن هولاكو (ت 664هـ) وحتى بايدوخان (ت 738هـ)، ومِن الجلائريين ثمانية سلاطين بداية مِن الشَّيخ حسن الكبير (ت 757هـ) وحتى دندى بنت حسين (ت 822هـ)، وهذه أول مرة تحكم بغداد امرأة.

خلال الحكم الجلائري غزاها تيمورلنك (795 و797هــ) الرهيب ودمرها، بعد ذلك تناوبت عليها الدُّول التركمانية والكردية والعثمانية والصَّفوية، ثم الملوك الهاشميين فرؤساء الجمهوريات، أولهم محمد نجيب الرُّبيعي (1958-1963) وآخرهم فؤاد معصوم (2014-)، والاثنان بصلاحيات محدودة، الأول ظل رئيس سيادة ديكوراً بقوة الزَّعيم عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، والأخير مقيد بتسليم الصَّلاحيات كاملة لرئيس الوزراء ضمن الدّستور، وتلك طامة الدّستور الكبرى، والعراقيون يسألون عن الرئيس واستخدام ما لديه مِن صلاحيات وإن كانت محدودة، فلو أراد تفعيلها ستقلب الطاولة لصالح النَّاس، فشباب التَّظاهرات يختطفون ويُهدَدون مِن قبل مَن لديهم ميليشيات ظاهرة ومخفية، ولهم الحق بالاستفسار عن رئيسهم، فهو مِن حيث الصلاحيات حامٍ للدستور ورمزاً للجمهورية.

للرئيس فؤاد معصوم منزلةً في القلب، لا كونه رئيس الجمهورية ولا الشخصية البرلمانية والسِّياسية، إنما قبل (2003) بكثير، يوم كان باحثاً وأكاديمياً، ولا أخفي حزني على تسلمه منصب الرئاسة، خوفاً مِن عده كبقية المتسلمين، وبذلك أفقد صديقاً عزيزاً، وسيعتب عليَّ الآخرون لماذا تتناول فلان وفلان ولم تمس الرئيس بكلمة.

اعترف أن العامل الشَّخصي يلعب دوراً، وأشبه عتبي عليه أو لومي أو انتقادي له، بما كان بين أبا الهذيل العلاف (ت نحو 235هـ) وإبراهيم النَّظام (ت نحو 231هـ) شيخا المعتزلة، فما بينهما مِن ودٍ أثر بتلطيف خصومتهما، وهنا لستُ أبا الهذيل ولا النَّظام فهما نجمان انظر لهما في سطور ما تركوا من تراث تقدمي قياساً برجعية زمن العراق الحاضر، ولا أنا بالخصم، إنما شفيعي في هذا التَّشبيه “إن الأمثال تُضرب ولا تُقاس”. عندما سُئل أبو الهذيل العلاف لماذا ترفق بالنَّظام ويرفق بك عند المناظرة أو الجدل، غير ما بينك وبين خصوم الاعتزال مِن حدة  وتعصب؟ ومعلوم ما يربطهما قد يُلين الحديد، فأجاب قائلاً: “وأستعتب الأَحباب والخدُ ضارع/واستعتب الأعداء والسَّيف منتضى” (القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة).

إنه ليس السبب الوحيد، إنما مسؤولية فؤاد معصوم محدودة، صلاحياته في الدَّولة لا تخلق خصوماً، ولم يتجاوز إلى ما أبعد مِن عتب، إضافة إلى الفترة القصيرة، وهذا ما نعامل به رئيس الوزراء حيدر العبادي أيضاً، محاولين ضخ الشيمة فيه، كي يكون مع النَّاس لا مع عمائم حزبه، حزب الدعوة الإسلامية، الذي صار مضرب مثل في الفساد، وأجل ما فيها السطوة على عقارات الدولة من المنطقة الخضراء وحتى جامعة البكر.

ليس الدعوة وحده فاسداً إنما نذكره لأن رئاسة الوزراء بيده أكثر من عشرة أعوام. نقول هذا وما زال الأمل بالعبادي معقوداً، حتى يصرخ المتظاهرون ضده، فعندها سنصرخ معهم.

عودة إلى الرئيس فؤاد معصوم، ولعل مِن طلبته وأبنائهم مَن يشارك في تظاهرات هذه الأيام، فقد درس في جامعة البصرة خلال السبعينيات، حتى ترك الأكاديمية إلى الجبل، وبذلك خسر وخسرناه باحثاً في التراث الإسلامي التنويري. كنا آملين سد الخسارة بما سيساهم به في التغيير. لكن يصعب فهم سكوت الرئيس ولم يظهر إلى المحتجين، وقد لفحتهم حرارة الصيف، وهم سيبقون لزمهرير الشتاء، وبغداد متطرفة بحرارة صيفها وبرودة شتائها، كتطرف دجلة وغلوائها عبر تاريخها، بين فيضان عارم وجفاف يحوج البغاددة إلى صلاة الاستسقاء. فقال محمد مهدي الجواهري (ت 1997): «ودجلة تمشي على هونها/ ويمشي رُخاءً عليها الصَّبا/ودجلة زهو الصَّبايا الملاح/ تُخوَّضُ منها بماءٍ صرى/ تُريك العراقي في الحالتين/ يسرف في شحه والنَّدى» (المقصورة 1947).

يسأل المتظاهرون عن الرئيس، أين موقفه منهم؟ وحتى هذه اللحظة لم يحملوه عبئاً، مثلما لم يحملوا العبادي سوى الحث على “الإصلاح”، وأن حماية الدّستور لا تعني حماية نواب الرئاسة، فالكل يعلم أن النيابة التي كانت رئاسة وزراء فعلت ما فعلت، وملفات الفساد لديها، وهذا باعتراف رئيس الوزراء السابق؟ فهل سأل الرَّئيس نائبه عن تهديده بفتح الملفات إذا ما دنى الحبل من رقبته؟ وكيف رئيس وزراء يخفي الملفات! أليس ذلك خيانة واعتداء على الدّستور؟ هذا سؤال المتظاهرين لك يا سيادة الرئيس.

يريد المتظاهرون منك استخدام ما سمح لك الدّستور بحماية أموالهم وأعراضهم، لا التصريحات التي تصدر من الرئاسة بحماية الدّستور! وما قيمة الدّستور وأرضة الفساد تقرض في شعبك؟ صحيح من حقك حماية نوابك دستورياً، لكن مواطنيك أولى بهذه الحماية، وأنت ترى أن ما يسمى بنظام المحاصصة سيأتي على آخر دولار  في الخزينة.

لعلك علمت بما صرح به رئيس الوزراء عن “القائد الضَّرورة”، بعد (2003) لا قبله، وهو رفيقه في الحزب. وسمعت بما صرح به رئيس الوزراء عن صرف احتياطي العراق من العملة، والذي رفعه الاقتصادي سنان الشبيبي من ثلاثة مليارات إلى أكثر من ستين ملياراً، ثم يُصرف ولم يبق منه إلا القليل، بعد أن صار محافظ خزينة العراق مِن حزب رئيس الوزراء. ولفساد القضاء وجهت تهمة للشبيبي وحُكم بالسجن لسبع سنوات، وبعد زوال “مختار العصر” حكمت المحكمة ببراءته. فهل سألت يا سيادة الرئيس قاضي قُضاتك عن حجم فساده وفساد القضاء؟

سؤال المتظاهرين عن رئيسهم مشروع، فهم يتوقعون حمايتهم دستورياً، لا حماية النواب دستورياً أيضاً، ودعنا من لعبة “المخارج الدّستورية”، بيدك صلاحيات يمكن لك استخدامها، ووقوف الناس معك أفضل ألف مرة مِن وقوف خصمائهم معك. لقد صار الشأن العراقي مهزلة ما بعدها مهزلة، فحذاري حذاري أن تكون جسراً لألاعيبهم. أخرج على الناس فأنت دستورياً رئيسهم، وإن اضطرك أن تنزل إلى الساحات معهم، فليس لديك ما تخافه وتخشاه، إلا المنصب، وهو كما ترى أمام حشود جائعة لا يعني شيئاً.

لم أسطر قائمة خلفاء وسلاطين وولاة بغداد ترفاً، إنما للتذكير بآلام هذه المدينة، ووضع الرَّئيس معصوم المختلف بينهم، ولا التذكير بنجيب الربيعي واختطاف دوره من فراغ، إنما أهيب به أن لا تمر السنون عليه مثلما مرت على الربيعي، ليتحرك بما لديه من صلاحيات وسيذكره الجياع والأرامل وضحايا الفاسدين في المال والدّم، فالمتظاهرون الغاضبون يسألون: “أين الرئيس”، معنا أم مع نوابه، وما نسجت علاقات المعارضة مِن قَبل مِن وشائج؟!

إن إعادة التحقيق بالقضايا الكبرى واجب بداية مِن اغتيالات كواتم الصوت، اغتيال المتظاهرين السابقين (2011)، إلى السطو على البنوك عن طريق حمايات الرئاسة، وتهريب القتلة إلى إيران، إلى عقارات الدولة، وبيع أراضيها بفلسات، وتسليم الموصل لداعش، إلى بيع العراق بالجملة، هذا ما يصر عليه المتظاهرون، فهم يهددونهم بالإبادة فرادى، لكنهم على ما يبدو مصرون على الموت جماعات، ولا حياة يتحكم بها الفاسدون. كن معهم فسكوتك أيها الصَّديق العزيز يفسرونه ضدهم، مع أنهم لن ينسوا لك وقفتك ليلة زوال “القائد الضرورة” الجديد، فلا تخسرها بحمايتك له، وإن غضب الولي الفقيه، فأظنك لستَ معنياً بتلك المدرسة.

  كتب بتأريخ :  الأحد 11-10-2015     عدد القراء :  3639       عدد التعليقات : 0