الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
إيران والعراق.. 35 سنةً على الحرب والضَّغينة راسخة

كانت السَّنة (1979) ثقيلة بحوادثها الخطيرة، وما أسفرت عنها. لقد غيرت وجه المنطقة وشكلت بداية البداية لتغيير العالم سياسياً بالكامل. أول الحوادث: الثَّورة الإيرانية، وهيمنة التيار الديني المتشدد عليها (فبراير/ شباط 1979)، وحركة جهيمان واحتلالها للحرم المكي (نوفمبر/ تشرين الثَّاني 1979)، ثم الحرب الأفغانية (ديسمبر/ كانون الأول 1979)، كانت الحوادث الثلاث تهيئة لوجود المنظمات الدِّينية المتطرفة، وقاعدة انطلقت منها الجماعات الدِّينية السِّياسية بشقيها السُّني والشِّيعي، نقصد التفكير الجدي بالاستيلاء على السُّلطة، وإشاعة ما عُرف بالصَّحوة الدِّينية، وتلك قصة أخرى.

بلا شك أن الحرب العراقية الإيرانية كانت نتيجة لقيام الثَّورة الإسلامية، فقد قاد الغرور بالانتصار السريع، وتسلم الحكم بزخم شعبي وعزل كل غير إسلامي شارك بالثَّورة، إلى  الانطلاق بالأُممية الإسلامية، وقد بارك الإخوان المسلمون وفصائل الإسلام السِّياسي كافة الثَّورة، بعد أن بثت الحياة فيهم. حينها أخذت التظاهرات تجوب شوارع طهران والمدن الإيرانية، بُعيد الثَّورة للتحرك مِن أجل قيام نظام إسلامي بالعراق، فحسب تقديراتهم أن السلطة ببغداد صارت قاب قوسين أو أدنى، وهذا بطبيعة الحال شكل قلقاً لدى سلطة بغداد، التي هي الأخرى حدثت فيها تغيرات خطيرة، بعد الثورة الإسلامية بخمسة شهور فقط.

هنا تقابل روح الله الخميني (ت 1989) وصدام حسين (اعدم 2006)، على رأس الدولتين، الغنيتين بنفطهما وبشرهما، فأخذتا تغليان بالعنف السياسي. مع الفوضى العارمة داخل إيران، قام قادة الثَّورة بتصفية الخصوم من النظام السابق، والخصوم الجدد، ولم يُعف علماء الدين الكبار أنفسهم من الاضطهاد، وقضية المرجع الكبير محمد كاظم شريعتمداري (ت 1985) معروفة، وتصلب القادة ضد كل الأنظمة المحيطة، على أن الثورة قادمة، تحت مبدأ “تصدير الثَّورة”، وهذا ما عبر عنه آية الله وأحد أركان القيادة حسين منتظري (ت 2009)، منتقداً، بعد حين، حسب ما نُسب إليه مِن مذكرات.

أما في الجانب العراقي فما أن تسلم نائب الرئيس الرئاسة، وانفرد في القرار، إلا وبدأت التصفيات بالرفاق، وبدأت عسكرة المجتمع. بمعنى أن الطرفين كانا على استعداد لخوض الحرب آجلاً أم عاجلاً. فالجانب الإيراني يعتبر الحرب قد بدأها العراق في 22 أيلول (سبتمبر) 1980، بينما الإعلام العراقي يعتبر  نشوب الحرب قبل هذا التاريخ بأيام، ومِن ذلك اليوم صارت إيران “مجوسية” في الإعلام العراقي، والعراق “كافرة” في الإعلام الإيراني.

غير أن هناك مَن يتحدث عن عدم تورع النظام الإيراني الجديد في شن حرب على العراق، وتمكين القوى الإسلامية مِن السُّلطة، بعد أن أخذت باستقبال الإسلاميين العراقيين، وعززت فيهم الأمل بعد خسائر فادحة، حتى إذاعة البرقية الشهيرة من الخميني إلى محمد باقر الصَّدر (اعدم قبل الحرب 1980) أُذيعت عبر الإذاعة الإيرانية، يحثه فيها على البقاء داخل العراق لقيادة الثَّورة، ثم تفجير الجامعة المستنصرية وغيرها من الحوادث.

يقول السَّيد طالب الرِّفاعي، وكان وكيل المرجعية النَّجفية بمصر (1969-1985)، ووكيل مرجعية شريعتمداري في الشرق الأوسط، إن شريعتدمداري قال له، وكان قُبيل الحرب وهما في مدرسته بقُّم: “سيدنا أغا رفاعي حكومتنا هذه ستجرنا إلى حرب مع جارتنا الإسلامية العزيزة العِراق! وبيننا وبينها وشائج جوار وعلاقات، وهذا شيء ليس مِن صالح الجمهورية الإسلامية” (أمالي طالب الرفاعي).

مِن الجانب الآخر سمعنا من مندوب العراق في الأمم المتحدة حينها صلاح عمر العلي (عبر مقابلة أجاراها معه حميد عبد الله (صاحب أهم المراجعات في القضية العراقية عبر لقاءات تلفزيونية مهمة)، أنه بُلغ بقرار الحرب قبل عام (سبتمبر 1979)، وشخصياً من صدام حسين، قال له: “استعد الحرب قادمة”، تعليقاً على لقاء جرى بين صدام ووزير الخارجية الإيرانية إبراهيم يزدي قبل الحرب، بمشورة العلي. معنى ذلك أن الطرفين كانا يبيتان لشن الحرب، والغرض إسقاط كل منهما.

إن العراق قد بدأ الحرب الشَّاملة أي اجتياح المدن، حسب تغطية أخبار ذلك اليوم، والثابت أن إيران حتى بعد استرجاع أراضيها كافة مسؤولة عن استمرارها وبهذه البشاعة، من منتصف 1982 وحتى الاضطرار  إلى وقفها (آب 1988) مع أن العراق كان يلح على وقفها بأي طريقة كانت طول تلك الفترة، فيبدو أن القيادة الإيرانية ظلت تتوهم بسراب دخول بغداد.

عندما كنا في المعارضة، لم تسمح لنَّا عواطفنا الثَّائرة ضد النِّظام العراقي السابق، عرض القضايا بهذا الأسلوب، فأمامنا، حسب ما كنا نُقدر ونعاني أيضاً، نظامٌ كاسرٌ، لا يتورع عن ارتكاب أي كبيرة في سبيل الحفاظ على سلطته، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، ولم يدركها بقية العرب حتى دخوله الكويت وحصول ما حصل.

لذا كانت ممارسات الجانب الإيراني مغطاة، عن أعيننا، بثقل هذا الشعور، وحتى سقط النظام وأسفر ما أسفر عنه مِن فعل إيراني داخل العراق، أخذنا بالمراجعة، وتفسير الحوادث بروية.

فبعد إعادة عرض المشهد في الشهور الأولى من قيام الثَّورة نجد التصعيد الإيراني متجهاً صوب العراق، ولم يهتم قادة الثورة للضحايا الذين سيسقطون داخل العراق مِن هذا التصعيد، فالتظاهرات تجوب المدن الإيرانية، والإعلام يتحدث بنبرة ثورة إسلامية داخل العراق، وكانت القوى السياسية العراقية، غير الإسلامية، جميعاً مضطربة، هل هذه الثورة لصالح البلاد أم ضدها، وكان الخصم نظام البعث. لهذا مرت كلمة شريعتمداري، وما كان يعترض فيه على ممارسات العلماء الثُّوار، مِن دون أن يسمعها أحد، بل أُخذ يُشار إليه بالعميل والمتآمر، ولم يُعترض على خروجه بهذا المشهد المذل في شاشة التلفزيون ليُعلن توبته، وكذلك الحال حصل مع قادة حزب “تودة”، ومع الكثيرين.

كانت حرباً غبية بجنون عملياتها وبنتائجها المخيبة، بل إن مِن أهم نتائجها أن تأسس الحكم الديني بإيران وثبت عماده، وأن تحرير “عربستان” حسب الإدعاء العراقي جاء كارثة على المنطقة، وأن الاتفاقية (1975)، التي أخذت إيران فيها قعر  شط العرب، ومنافع أُخر، والتي ألغاها العراق، عاد واعترف بها، ومِن آثار الحرب الكارثية حملات التهجير الفظيعة، التي شنها النظام السابق ضد الكُرد الفيليين وشرائح من المجتمع العراق، ولا يحس بقسوتها إلا ضحاياها، وقد عاد مَن تعلم في المدارس الإيرانية ليكونوا عناصر الميليشيات، وعاد مَن أُطلق عليهم عنوان “التوابين” من أسرى الجيش العراقي، مغسولي الأدمغة، فانتشرت الثَّقافة الدينية الهابطة، إلى جانب أن خسائر العراق في الحرب، من غير النصف مليون شاب تقريباً، وما تركته مِن أرامل وأيتام، وطغيان العنف، كانت مقدمة للحرب الثَّانية، أي حرب الكويت (1990-1991)، فأسعار النفط كانت المحرك فيها، بعد أن أخذ العراق يشكو  الضائقة بسببها.

أُعلن عن وقف الحرب (8-8-1988)، ببيان عراقي رسمي صادر مِن القيادة العامة للقوات المسلحة، وسمَّي بـ”بيان البيانات”، عبر تلفزيون بغداد، وعُرف ذلك اليوم “يوم النَّصر العظيم”، وظل يحتفل به سنوياً. بعدها باثني عشر يوماً توقفت الحرب رسمياً (20-8-1988). لم يُذكر في هذا البيان اسم صدام، ولا إشارة إليه بألقابه، فربَّما كان التَّصرف مقصوداً، لإشعار العراقيين أن النَّصر نصرهم.

جاءت موافقة إيران على وقف الحرب مفروضة، فهي الأخرى لم تحقق نصرها بقيام دولتها المطلوبة ببغداد، وبعد ذلك من السهل تجوب المنطقة بحرية، ولم يُسمح لها بالوصول إلى لبنان مباشرة حسب طلبها أو شرطها في وقف الحرب، في مفاوضات سابقة، ولا محاكمة صدام حسين دولياً، وفقدت أكثر من نصف مليون، وكلهم كانوا موعودين بالجنة، حتى شاع بيت مِن الشعر، لكثرة من قُتل من المعممين، مَن دفن منهم في “بهشت زهراء” أنشده البعض توريةً: “إن يمت من مشايخ الدِّين شيخٌ/ نبتت زهرةٌ مكانَ الفقيدِ/ وقياساً فإن يموتوا جميعاً/ تغدو إيران جنةً من ورودِ”.

هذا، وقد تبدل الزَّمن سراعاً، فما فشلت به إيران مِن إسقاط النظام العراقي، وقيام نظام إسلامي مكانه تابع لها، حصلت عليه من دون أن تستعمل إطلاقة واحدة، فما أن أكمل الجيش الأمريكي احتلال العراق، بدأت إيران بالعمل على ملء الفراغ، عن طريق القوى الإسلامية التي كانت تحارب معها، وبتشكيل شبكة مِن الميليشيات، والغالب منها تأسس في ظروف الحرب، حتى أن أحد أقطابها، طالب بعد (2003) بتعويض إيران عن خسائرها في الحرب، فضج العراقيون مِن هذا الطلب.

أحد قادة الميليشيات الآن، وله الصوت العالي في الحُكم العراقي،صرح (صورة وصوت) إثر تداول الحديث وتهيئة إيران نفسها لقبول قرار وقف إطلاق النَّار الأممي (598) قائلاً: “رأي الإمام الآن مع وقف إطلاق النَّار، ونحن مع الإمام حتى آخر قطرة دم، الإمام إذا يقول: حرب حرب، الإمام إذ يقول: صُلح صُلح. نعم نحن مع الإمام. نحن نعلم بأن الإمام هو الآن الإمام الذي يمثل الإسلام، فالإسلام اليوم إذ يحتاج إلى صُلح نوافق”. لا أعلم هل تغير صاحب هذا القول بعد تسلم السُّلطة، أم تحول إلى الولي الفقيه!

على أية حال،  لقد خلقت الحرب ظرفاً شائكاً وعواطفَ هائجة بين البلدين، لم يكن فيها منتصر، سوى أنها عززت مِن نظام الدولة الإسلامية، ووجود مَن يرى الحرب والسِّلم مع الإمام مثلما تقدم، وبدأ التمييز الطائفي بمواجهات علانية. ما يمكن قوله، وقد ذهب النِّظام العراقي الذي كان طرفاً فيها، أن ضغائن القيادة الإيرانية مازالت راسخة، وطموحها بدولة الولي الفقيه لم تنتهِ، ما زال موجوداً، على رأس السلطة الفعلية أي القوة العسكرية خارج الجيش، مَن يرى حربها الحرب وصُلحها الصُّلح.

  كتب بتأريخ :  الأحد 18-10-2015     عدد القراء :  3867       عدد التعليقات : 0