الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
قُلع جذرٌ آخر.. رحلت أُمي!

رحلت أُمي، فَقُلع جذرٌ أصيل مِن شجرتي، وشجرة الوطن، ما فتئ تقلع جذوره. رحلت سحابةٌ كانت تظلني، وتظل الوطن في داخلي، وتمطرني وتمطره بصدق الأدعية والأماني. كان البعد القسري، وقد تراكمت الأيام حتى صارت (37 عاماً)، بسبب موطن أدمن تهجير أهله، نحو أربعة عقود مِن الغياب بيني وبين وطني الكبير العراق ووطني الصغير أُمي، التي رحلت قبل أسبوع حيث أهوار العراق، ومنطقة “عروسة الأهوار”، هكذا كان اسمها في الإعلام وسط الستينيات، وهناك ولدت ونشأت ورحلت.

مَن يدمن العذابات، مثل ملايين العراقيين، يصبح خبر الموت له شيئاً عادياً، لكن أن يأخذ الموت بقطع الجذور، وأنت في الاغتراب، هذا شيء كثير، يزيد ألمه عن الحد. صارت توزع روحها بين القارات، حيث الأخوة والأحفاد المتفرقون تحت النُّجوم، وهي التي، مثل بقية العراقيين في الزمن الغابر، أنفسهم لا تطاوعهم على الهجرة إلى قرية مجاورة، ويسمونها “غربة”، فكيف التغرب بين القارات! تحايلنا عليها يوماً أن تتحول إلى بغداد،  وقد أُجبرت على ذلك، فما أن خرجت ذات صبح إلى السوق حتى عادت تطلب العودة، والعذر على حد عبارتها: “شفت ألفين ولا واحد صبحني بالخير”! فكان يصعب علينا إقناعها بما بين المدينة والقرية من وحشة وإلفة، فعادت بعد أن أطبق عليها الحزن.

كان الأمل يشدنا بقوة أن يأتي قطار  تائهٌ ويحملنا، فالجدار المانع أخذ يتهالك ويميل، وسقط على الحقيقة لا التَّمني، فضجت عواطفنا بلهفة العودة، وقبل أن تيبس الجذور، التي كنا نسقيها وتسقينا بالأمل. كانت أمي قُبيل الزلزال الكبير (2003) زائرةً بدمشق، جاءت مع قافلة لزيارة ضريح السيدة زينب، يوم كانت القوافل لا تحمل سلاحاً، وليس لديها خطط في الدفاع المذهبي، ولا  تقدم مشهداً كمشهد اللطم في الطائرة، ولا تخشى قاعدة وتكفيريين، تأتي القوافل، ومنذ قرون، وتعود بهدايا الشَّام وبركات السيدة.

كانت أمي ضمن هذه القوافل، قبل شهرين لا أكثر من (نيسان/أبريل 2003)، فأجلتُ اللقاء بها بعد غياب ربع قرن مرَّ بالتمام والكمال، على أن اللقاء سيكون قاب قوسين أو أدنى. كنا مزهوين لأن الأمل قَرب على التَّحقق، وبعض من الجذور ما زال حياً. لم نكن نحسب للنتائج حساباً، أكثر احتمالاتنا سنحقق جزءاً مما حققه اليابانيون مثلاً، من دون إداركٍ لما بين معارضتنا ومعارضة اليابان أو طبائعنا وطبائعهم.

لم يُترك لنَّا التفكير  منجناً غير  القبول بالزِّلزال الهائل، وإذا يبدأ الدَّم شلالات ونهرانا، فتتأجل العودة، ونأخذ بعدِّ الوقت من جديد، لكن هذه المرة مع يأس مطبق، فمَن لا يُحقق حلمه خلال ربع قرن عليه إعادة حساباته أو الانزواء، وهو باليأس أحق. فمن تلك اللحظة، بين صعود الأمل إلى الذَّروة وهبوطه إلى الدَّرك، صار بيتا محمد مهدي الجواهري(ت 1997) لازمة على اللِّسان: “ستبقى طويلاً هذه الأزمات/إذا لم تُقصِّر عُمرها الصَّدماتُ/ إذا لم ينلها مصلحون بواسل/جريئون في ما يدعون كُفاةُ”(الرَّجعيون: 1929). لقد فرخت الأزمات أزماتٍ، لم تبقِ كوة لخيط من الأمل. والبواسل المرجوون ليسوا أهل إصلاح وصلاح، وما بينهم وبين البسالة طفرة بحر لا نهر.

مع ذلك كان الجذر، والتي هي أُمي، وأُمهات غيري من المهاجرين والمهجرين والمنفيين والهاربين، لا يسمح بالانتظار ولا الصَّبر أكثر. حتى قبل أيام كنت أفكر بالعودة لأجلها، فعتبها لا ينقطع، بعد إعدام بكرها جُمعت العواطف نحوي، تلح وأنا أُجل أملاً بعودة لا تضيف عليها أحزاناً بما فقدت. فالوطن تحول إلى غابة، كان خوفنا مرهوناً بواحد، نتقي شَّره بالسكوت أوالتغاضي والصَّبر على فجاجته، وإذا بالشرِّ  له رؤوس كالتنين، فتتقي مَن وتحذر  ممَن؟ وما قيمة الوطن إذا عُدت إليه بحماية وتسللٍ، ولم تتسكع بين ثناياه بالحرية التي كنا نألفها، ولا نحذر أحداً إلا مخالب السلطة.

عندما التقينا بأربيل (2007) وجدتها قفصاً مِن عِظام، والعبارة مقتبسة مِن رائعة الشَّاعر الأجل الأكبر  في نظري، في رثاء أُمه “تعالى المجدُ يا قَفص العِظامِ/وبُورك في رحيلكِ والمقامُ/تعالى المجدُ لا مالٌ فيُخزى/ ولا مُلكٌ يُحلَّل بالحرامِ”. حاولت أن تظهر أمامي بمظهرها الذي تركتها عليه، نشطة حيوية تعتني ببقراتها وبطيور الماء بنفسها، لكل كائن منها اسم، حسب لونه أو سجيته، وتزرع ما حولها مِن تراب، ولا تترك الدار بلا نخلةٍ باسقةٍ وسدرة تملأ الفضاء بأغصانها وبأعشاش الطُّيور عليها، ومنهما الظل والثَّمر، وفي أول احتضان خَشيت من الفراق ثانيةً، فقالت: “هم راح تروح”!

أتذكر جيداً أنها أخذت تؤلف بين فراخ البط وفراخ الدَّجاج لأم واحدة، ويحدث فراخ دجاج يتبعون بطة وفراخ بط يتبعون دجاحة أو أشقاء مختلطين! فقد أدركت أن عدد أسابيع التفقيس نفسها، لكن الأم تحتفظ بطبائعها وللأفراخ طباعهم. كانت بيئة الماء تراعي اختلاف الطبائع في الكائنات والبشر كتآلف الأديان والمذاهبَ وألوان النَّاس. فعندما يوضع بيض البط تحت الدَّجاجة تصبح أماً، ينزل فراخها إلى الماء بينما تبقى منتظرة خروجهم لا تكف عن منادتهم، وهم يسبحون بمرح، وبالعكس تنزل الأم البطة ويبقى الفراخ على الجرف ينتظرون، أما المختلطون فكلٍ يفعل بغريزته، والأم لا تميز بينهم على أساس الجنس، وهكذا يستمر المشهد العجيب الغريب، على مَن لا يعرف مزايا تلك البيئة. سألتها بعد غياب ثلاثين عاماً عن تلك البيئة، أما زلتي توهمين الدجاجة ببيض بط؟ قالت: لم يبق ماء ولا بط! أخذنا نحفر الآبار في بطن الفرات!

كان أول الآمال بعد الزلزال، والقبول بعدم منطقية الاحتلال، أن يعود الماء، وتخضر الأهوار، ويرعى البقر فيها، وتعود الضَّفادع وكل كائنات الماء، ومنها الخلطة العجيبة في مؤاخاة الأجناس المختلفة تحت جناح أم واحدة، لكن لم يحدث شيء من هذا، بل ساء الحال كثيراً، وابتعد الأمل أكثر، وأعود للجواهري: “ومن عجب أن الذين تكفلوا/ بانقاذ أهليه هم العثرات”. بينما كانت الأهوار نشيد المعارضة الهادر ضد المرتكب أثم تجفيفها.

بعد ثلاثين عاماً، وجدتها تخلت، بعض الشَّيء، عن سجيتها التي تركتها عليها، شعرتُ بها تتحدث بلسان الكفر والإيمان، نحن وهم! فذكرتها: ألم تكلفيني بحمل طبق من فطور رمضان إلى جيراننا الصَّابئة (المندائيين)، أم مسعود وأبي مسعود، وطفلتهما الجميلة نبأ كنا نحملها على أكتافنا، وبقية أولادهم يملأون داركِ يلهون تحت رعايتك؟ وعندما سألتُكِ ما دينهم؟ قلتِ بعدم رضا لسؤالي: “دينهم لهم”! فأين ذلك القلب المتسع؟ سكتت ولم تجبني!

شعرتُ قد أحرجتها، عارفاً بما حصل من بث الكراهيات حتى صارت القرى والمدن طاردة للاختلاف الديني والمذهبي. فما حصل يغير الجبال وصخورهاالصَّم، لا أمي فقط وقد تركها الزَّمن والمحن قفص عظام، وعاشت تحت سطوة الذين يعتقدون أن مفاتيح الجنة بأيديهم، وعليها تصديق ذلك.

ظلت تطالبنا بتعيلمها القراءة والكتابة، وكانت تقول : “أنا عمية لا أقرأ ولا أكتب، علموني”! لم نأخذ طلبها على محمل الجد، ولم نصبر لها مثلما كانت تصبر علينا، كنا مشغولين عنها بأُمور لا تساوي ذرة مما كانت تتمنى، حتى تركناها لأوهام وخزعبلات مَن ظنوا يفتحون الجنة ويغلقونها بأيديهم، ونحن غائبين، فليس لي الحق بمطالبتها أن تبقى على ما تركتها عليه، وكل شيء حولها في انحدار، وقد عاشت زمن التجارة في الدِّين، وما تركته المحن والمصائب من تدهور في العقول.

رحلت أمي، وبرحيلها انقطع أمتن الجذور وأكثر حوافز الأمل بالعودة، والنَّدم كلَ النَّدم لم أسمع توسلاتها وأُحقق لها رؤيتي ثالثة، وكنت وعدتها هذا الشَّتاء، لكنها لم تنتظر. في الختام وبعد السَّلام: مَن يُكبر عليَّ إفراد كلمة لرثاء أمي فلستُ أكثر بأساً من أبي الطَّيب المتنبي(اغتيل 354هـ)، وقد شغلت ميميته الأجيال بجدته أُمه، وعراقية الأمس ليست أكثر عذاباً مِن عراقيات اليوم: “طَلَبْتُ لها حَظّاً فَفاتَتْ وفاتَني/ وقد رَضِيَتْ بي لو رَضيتُ بها قِسْمَا”. لقد عهدتها تنتظر  إلا هذه المرة. رحلت.

  كتب بتأريخ :  الأحد 25-10-2015     عدد القراء :  3819       عدد التعليقات : 1