الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مع قانون البطاقة الوطنية الموحدة

مررت الحكومة ومجلس النواب العراقي , قبل ايام , قانون البطاقة الوطنية الموحدة , مبررين صدوره والعمل بموجبه , بأنه سيغني المواطن العراقي عن الكثير من الهويات والوثائق الرسمية التي يحتاجها العراقيون في اية معاملة رسمية في دوائر الدولة .... إلا ان واضعي هذا القانون والمصوتين عليه , رغم محاسنه  , نسوا أو تناسوا ان الشعب العراقي يضم الى جانب الأغلبية المسلمة , المسيحيين والصابئة المندائيين والأيزيديين والشبك , وهم أهل البلاد الأصليون , قبل دخول الأسلام , كدينٍ , الى العراق .

وحيث ان هذه المكونات الدينية الصغيرة , ليست مقاتلة , وأن اديانها مغلقة وليست تبشيرية , فقد تعايشت مع الاغلبية المسلمة بهدوء وتفاهم وسلام طوال عشرات القرون , وكانت لهم خدماتهم الكبيرة للدولة الأسلامية , في مجالات العلوم المختلفة , كالطب والرياضيات وعلم الفلك وغيرها .

وفي العصر الحديث , كان لأبناء هذة المكونات دور كبير في بناء الدولة العراقية الحديثة في مختلف المجالات, واحتل بعضهم مراكز مرموقةً في مؤسسات الدولة ومرافقها المهمة , وسالت دماؤهم بغزارة في الدفاع عن ارض العراق الحبيب ودفعوا مثل غيرهم ضريبة النضال ضد الأنظمة الدكتاتورية المقبورة ,,,ورغم ذلك , ظلوا يعَاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في تبوء المراكز العليا في الدولة , رغم كفاءات بعضهم الكبيرة ....المهم تعايشت هذه الكيانات المخلصة مع هذا الواقع المرير , وقبوله كأمر واقع , في كل العهود و منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة , باستثناء السنوات الأولى لثورة 14 تموز 1958 , والتي لم يكتمل بناؤها القانوني والتشريعي , اذ عاجلها انقلاب شباط الأسود 1963 , وكان ما كان من ضياع فرصة بناء دولة ديمقراطية عصرية , تساوي بين الجميع وتعتمد المواطنة أساساً للتعامل مع الفرد العراقي .

فأرض العراق أذاً , تضم مجتمعاً متعدد الأديان والمذاهب , فالأسلام هو دين الأغلبية المطلقة من العراقيين , تليها المسيحية والصابئة المندائيين والأيزيديين والشبك . ان هذه الأديان الأربعة الأخيرة هي أديان مغلقة , اي ليست تبشيرية ولا تتقبل دخول آخرين من ديانات اخرى اليها . ان الدين الأسلامي هو الدين الوحيد الذي  يتقبل اعتناق الآخرين للأسلام , لكنه يرفض تماماً خروج أي مسلم الى دين آخر , ويعتبره مرتداً وعقابه الموت ....وهكذا فإن اعتناق الأسلام من جانب ابناء الأديان الأخرى , امر جائز , بل ومرحب به, ويدخل في باب حرية المعتقد التي تنص عليها دساتير العالم كافة , بما فيها الدستور العراقي , حيث يسمح للعراقي والعراقية , باعتناق الدين الذي يريد , ويعتبر ذلك حقاً دستورياً مكفولاً ...بيد ان قانون البطاقة الوطنية الموحدة في مادته السادسة والعشرين , الفقرة ثانياً , جاء مخالفاً للكثير من مواد الدستور العراقي , كالمادة الثانية , الفقرة ب والفقرة ج , والمادة الثالثة , والمادة التاسعة والثلاثين , والمادة اربعين , التي نصت جميعها على المساواة بين العراقيين وعلى الحرية الدينية وحرية ممارسة الشعائر الدينية , كما انه جاء مخالفاً لشريعة حقوق الأنسان

و ميثاق الأمم المتحدة في حماية حرية الفرد الدينية والأجتماعية بغض النظر عن الدين الذي يؤمن به.

لقد جاءت الفقرة الثانية من المادة 26 من قانون البطاقة الوطنية الموحدة , لتفرض الدين الأسلامي على الأولاد القاصرين في الدين ممن اعتنق احد ابويهما الدين الأسلامي !! . اذ نصت على  " يتبع الأولاد القاصرون في الدين من اعتنق الدين الأسلامي من الأبوين " . اي ان هذه الفقرة تفرض اعتناق الأسلام فرضاً على هؤلاء الأولاد , ممن لم يبلغ الثامنة عشر من عمره, وهذا مخالف حتى للدين الأسلامي نفسه في النص المعروف " لا إكراه في الدين " , كما نص عليها الدستور في المواد المذكورة اعلاه .وجاءت هذه الفقرة الملغومة  استناداً الى تفسير فقهي خاطئ مضت عليه مئات السنين , يعتبر الدين الأسلامي أشرف الأديان .

لقد اصطدمتُ في سبعينات القرن الماضي بحادثة من هذا القبيل سأرويها لكم باختصار  :

اتصل بي شاب مندائي , متزوج وله ولدان صغيران , كانت زوجته على علاقة برجل مسلم , وفي احد الأيام اخذت هذه الزوجة الولدين وراحت الى دار عشيقها , وهناك اعلنت اسلامها وتزوجته . أقام الرجل دعوى لأسترجاع ولديه , إلا ان محكمة الأحوال الشخصية ردت دعواه , واعطت حضانة الأطفال للأم , وحكمت بأن يعتننق الطفلان دين الأم ( الأسلام )....ميَّز الرجل الدعوى , إلا ان محكمة تمييز العراق , بهيئتها العامة ( 23 قاضياً ) قد صادقت الحكم وأعتبرت " ان الأطفال يتبعون أشرف الدينين !!" . حملتُ اضبارة الدعوى وطلبت مقابلة رئيس مجلس النواب ( سعدي مهدي صالح ) لا اذكر اسمه بدقة , وقد قابلته اثناء ندوة كان يقيمها , وقد حضر معي احد القسس , لنفس الغرض . عرضت عليه قضية ذلك الرجل , فأجاب " ان القيادة اوقفت العمل بهذا القانون " فعرضت عليه الأضبارة وقرار محكمة التمييز بتاريخ حديث , في حينه , وحين قرأ ان الأطفال يتبعون أشرف الدينين " , حاول ان يبرر ويتملص من الأجابة , عندها سألته منفعلاً , " من قال ان دينك أشرف من ديني ؟ , انني اعتبر جميع الأديان السماوية بدرجة واحدة من القدسية و ( الشرفية ) لأن مصدرها واحد هو الله " , وقد ساعدني في المناقشة نيافة القس , لأن القضية تهمنا جميعاً . حاول السيد سعدي تهدأتي  ووعد بعرضها على السيد الرئيس بأول فرصة ممكنة ....طبعاً لم استلم اية نتيجة حول الموضوع .

نعود لقصة الرجل ومصيبته بخسارة الزوجة والأطفال ... فبعد فترة قصيرة اقامت تلك المرأة , دعوى ضده تطالبه بنفقة الأولاد , باعتبارها حاضنةً لهما , وحكمت لها المحكمة باستحقاق النفقة , رغم ملابسات القضية , وصاروا يستقطعون منه المبلغ الذي قررته المحكمة ....بعد فترة , وبحكم كونه أباً , يتابع اخبار اطفاله , علمَ بأنهم سيقومون بختان الأطفال ,,, أقام دعوى لإيقاف ذلك بالأستناد الى نفس القرار الذي انتزعهم منه , بأنهم " سيخيرون بعد بلوغهم سن 18 سنة , بأن يعودوا الى دينهم الأول , أو ان يبقوا على الدين الأسلامي " , حيث ان الختان محرم في الديانة المندائية , لو ارادوا العودة اليها .... إلا ان المحكمة ردت دعواه مجدداً ... ازاء هذه الضربات المتوالية والأحباط المتواصل , قرر الرجل ان يغادر الوطن الذي لم يقدم له سوى الويلات والدمار ...لا ادري ماذا حل بالرجل , اتمنى ان يكون قد اسس له عشاً جديداً يعوضه ما عانى من نكبات ...

هذا مثل ربما هناك الكثير من امثاله , فهل يريد مجلس نوابنا " العتيد " ان يعيد لنا

" مفهوم أشرف الأديان " أم نعول على موقف السيد رئيس الجمهورية فؤاد معصوم , برفض هذة الفقرة المعادية للسلم المجتمعي والتآخي ووحدة العراقيين بمختلف اديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ؟ . ان هذا الأمل على ضعفه بحاجة الى وحدة المكونات غير المسلمة , وبدعم من المسلمين المتنورين , وهم كثر بالتأكيد , وتصعيد نضالها العادل من اجل حقوقها الوطنية ومساواتها مع الآخرين الذين يحكمون باسم الدين الأسلامي , وهذا يتطلب تشكيل وفد مشترك من هذه المكونات المغلوبة على امرها لمقابلة السيد رئيس الجمهورية , وايضاح موقف هذه المكونات قبل ان يصادق على هذا القانون الجائر , كما ان التحرك على المرجعيات الأسلامية الشيعية والسنية لشرح خطورة هذه المادة على وحدة الشعب العراقي , هو امر في غاية الأهمية , اذ ان موقف المرجعيات الدينية , اذا لم يفلح بإرغام الحكومة والبرلمان لتعديل هذه المادة , فانه سؤثر ايجابياً في الشارع العراقي ويكبح بعض الجهات المتطرفة من التمادي في عدائها ضد المكونات الدينية غير المسلمة .

  كتب بتأريخ :  السبت 07-11-2015     عدد القراء :  3099       عدد التعليقات : 0