الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
غرق بغداد.. ليست أمطاراً إنما دموع ثكالى!

تعرضت بغداد في الأسبوع الماضي إلى سيل عارم، أغرق شوارعها ومنازلها، وكأن دجلة قد طغى مثلما كان يفعلها في القرون والعقود الخوالي بطوفان، وكثيراً ما يجتمع معه على ساكني بغداد الطَّاعون، وتحول النَّهر إلى مقبرة، وقال العراقيون قديماً عندما اجتمع ظلم الحَجَّاج بن يوسف الثَّقفي (ت95هـ) والطَّاعون عليهم في موسم واحد: “لا يكون الطَّاعون والحَجَّاج”(ابن تغرى بردى، النُّجوم الزاهرة).

كم أغرقت الأمطار بغداد لكن ذلك كان يحدث قبل معرفة قنوات المجاري والصَّرف الصَّحي، وقد فسر أزمة المجاري حديثاً أمين العاصمة السَّابق بوجود صخرة تزن مئة وخمسين كليوغراما، فشاعت نسبة إليه كناية “صخرة عبعوب”. كان إسناد هذا المنصب الخطير إلى أمثال هذا الرَّجل أشد مِن كارثة جفاف أو طغيان دجلة على بغداد.

كان الفساد الإداري والمالي وراء تحول الأمطار إلى كارثة على ساكني بغداد؛ ولا أقول أهل بغداد أو البغاددة، لأن أولئك لم يبق منهم سوى الأثر، وقد صاروا غرباء بين دروبها. أخذ مقاولو أو متعهدو الإعمار والبناء من شركات أو أشخاص، ينفذون مشاريعَ مؤقتة كأنها ليوم ويومين، وبالكثير لشهر أو شهرين، فالنَّوعية غير مطلوبة بعد توقيع العقد وأخذ العمولة، المهم أن يتم المشروع ويُصور ويُفتتح ولا تجد للمتعهد وشركته حضوراً بعدها، بمعنى أنها مشاريع “زرق ورق”. سُجلت هذه العبارة أيضاً كماركة لأمين العاصمة السَّابق نعيم عبعوب، وقد أشتهر بها ما لم يشتهر عالم من العلماء باختراع واكتشاف. لا نتوقف عند الشَّخص “عبعوب” بل عند الزَّمن “عبعوب”، نتاج بؤس وحِطام سابق.

ذكر لي أحد الأصدقاء العراقيين أن والده قبل نحو خمسين عاماً استأجر أحد البنائين لبناء سور أمام داره، لكن بعد يوم واحد سقط السُّور، فهرع إلى البنا ليخبره بسقوط السور قبل جفاف الجص، أجابه ببرود وثقة: “أتريده يدوم عُمراً”! أي يؤبد طول الحياة! هذا واقع مشاريع الإعمار والبناء ببغداد وبقية المدن، ليوم أو يومين لا أكثر، وليحذر سكان بغداد مِن عبور جسر شُيد بعد (2003)، فنسبة إنهياره كبيرة جداً.

لقد مثل نموذج أمين عاصمة بغداد السَّابق العصر الحاضر، فأخذت الفضائيات العراقية تتسابق لاستضافته في برامجها، لا أظنها حباً بمعرفة ما يجري، إنما لغرابة ما يقول. لم يخجل القائمون على الشَّأن السياسي، من وجود أمثال هذا الكائن على هرم المسؤوليات الكبرى. لم يخجل من وجوده مَن رشحه لهذا المنصب، ومَن وقع قرار تعيينه ضمن نظام المحاصصة البائس، لأنهم عبعوب جميعاً.

نعم كان عبعوب مهندساً، حسب ما أتى في تعريفه، وأين الغرابة؟ فأكثر المسؤولين كانوا مهندسين وأطباء، لكن مع وعي ضحل وثقافة رثة، يؤمنون بطب كرامات الأولياء الصالحين وبسحر عظم الهدهد، ويلتزمون بها أكثر مِن إلتزامهم بقسم “أبقراط” نفسه. إنه تراجع في كل شيء حتى في تدينهم، الذي صار حجتهم الوحيدة على كسب العوام في الدورات الانتخابية، فمن هنا لم يكن عبعوب رجلاً إنما عصراً وثقافة نظام.

ان الغائب في كوارث بغداد الشُّعراء، أولئك الذين أرخوا بقصائدهم لحوادث مؤلمة في حياتها، واعترضُ على مَن لا يعتبر الشِّعر وثيقة تاريخية، فتاريخنا أكثره شعراً، وعبر الشِّعر كُتب تاريخ العديد مِن الوقائع. أقول كان الشّعراء غائبين، إما أن الشَّعر قد انقرض والزَّمن لا يلد شعراء، أو أنهم لاذوا بالصَّمت.

قيل الكثير في رثاء بغداد، على مختلف عصورها، مثلما قيل أيضاً في أوقات النَّعيم والزَّهاء، ويمكن لا تصل تلك القصائد من الناحية الفنية إلى ما يقوله المطبوعون، لكنَّ تبقى أهميتها محصورة في تسجيل الوقائع، وعندما تقابل ما سَجلته تلك القصائد مع نثر المؤرخين لا تجد فيها مبالغات الشُّعراء ولا خيالاتهم.

ذكر أبو الحسن المسعودي(ت 346هـ)، وكذلك محمد بن جرير الطَّبري(ت 310هـ) شعراً كثيراً عما حصل ببغداد بسبب المعارك التي دارت بين جيشي الأخوين محمد الأمين (قُتل 198هـ) وعبد الله المأمون (ت 218هـ)، ومنها قصيدة في الصَّميم، لم يُذكر اسم شاعرها، فعلى ما يبدو أنه شاهد عيان، وربّما الخوف جعله يبثها يتمية من دون اسمه، وكل ما جاء فيها تكرر على بغداد بمضاعفات، وما حدث ويحدث في وقتنا هذا ليس ببعيد عن وصف الشَّاعر: “بكت عيني على بغداد لما/ فقدتُ غضارة العيش الأنيقِ/ تبدلنا هموماً من سرورٍ/ ومِن سعة تبدلنا لضيق/ أصابتنا مِن الحُساد عينٌ/ فأفنت أهلها بالمنجنيق/ وقومٌ أحرقوا في النَّار غصباً/ ونائحةٌ تنوح على غريق/وحوراء المدامعً ذات دلٍ/ مضخمة المجاسد بالخلوقِ” إلى قوله في عظمة الفتنة، وكأنه يصف ما يجري اليوم: “تجنب من قتالهم جميعاً/ فما يدرون مِن أي الفريقِ”(مروج الذَّهب ومعادن الجوهر).

بعد ذلك بحين طويل وصف بديع الزَّمان الأصطرلابي (ت 534هـ) حال بغداد عندما سقط الثَّلج على العراق في شتاء (510هـ)، وتحديدا (21 كانون الثَّاني/ يناير) حتى أبيض وجه الأرض “من البصرة إلى تكريت” (ابن الأثر، الكامل في التَّاريخ)، فوظف الشَّاعر والفلكي المشهد ليعبر عن أحوال أهل زمانه: “يا صدور الزَّمان ليس بوفرٍ/ ما رأيناه في نواحي العِراقِ/ إنما عمَّ ظلمكم سائر الأرض/ فشابت ذوائبُ الآفاقِ”. أقول: لو كان للشعراء وجودٌ ببغداد لعبروا عن الحقيقة بأن ما حصل ليس إنهمار غيوث إنما دموع ثكالى!

  كتب بتأريخ :  الإثنين 09-11-2015     عدد القراء :  3822       عدد التعليقات : 0