الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العِراق.. موسم مهرجانات التَّجزئة

إنه موسم ما بعد داعش، بعد أن مضى موسما نهاية ما بعد حرب الكويت، ثم ما بعد صدام. فما بعد الكويت استقلت المنطقة الكُردية بإدارة خاصة، وما بعد صدام ظهرت قائمة الأقاليم: إقليم الوسط والجنوب، وإقليم البصرة، وبعدهما نودي بالإقليم السُّنّي، وبينهما نودي بإقليم سهل نينوى، وكلُّ ديانة وقومية وجماعة تبحث موضوع إقليمها.  على ما يبدو أن سياسيي الكُرد الأكثر حماساً لهذه الأقلمة والتَّجزئة، لا حبا بمَن يريد قطع قلماً مِن الشَّجرة إنما يعطي المبرر والحجة إلى المضي إلى الانفصال، وهم الأكثر الذين يتحدثون عن العِراق المصطنع أو المختلق، وأن هذه البلاد لا تاريخ لها ولا أصل، أخذ غربيون يتحدثون بهذا المنطق، ولا أعلم ما علاقة مدرس في جامعة مثل أكستر يتحمس بأربيل لإلغاء وجود العراق، وعندما تسأله عن ثقافته في تاريخ هذه البلاد، ولو في العهد العثماني؟ يكتفي بالابتسامة.

لكن لماذا الكرد بالذات يستعجلون التَّجزئة، بل ويلحون عليها، وهم الذين تركوا آمالهم القديمة وظلوا ضمن العراق، مثلما كان وضعهم في العهد العثماني؟ وبدلاً مِن تشخيص خلل الدَّولة الحديثة، منذ قيامها حتى يومنا هذا، رموا بتهمة الخيانة وخدمة الصهيونية والإمبريالية وقبلها خدمة شاه إيران، مع أنه لا يوجد طالب حق في التَّاريخ لم يلجأ إلى خصم خصمه مهما كانت هويته.

تأسست الدَّولة الحديثة على أساس أنها عربية، العلم عربي والنشد عربي، والإعلام عربي، والإدارة عربية، ومناهج الدراسة والانتماء الإقليمي عربيان، ويشار مؤخراً مِن قِبل القوى الإقليمية، لابد من عودته إلى عروبته، لكن لا أحد يسأل نفسه، الملايين غير العربية، ماذا سيكون وضعها داخل هذا الكيان العربي؟ أمر طبيعي أن يجد الكردي نفسه مغترباً ببلاد يحمل جوازها وينتمي إليها ولا تقرُّ بوجوده. حتى ظهر مصطلح “التَّعريب” مِن الذين وقع عليهم الفعل، وقبلها كان يُطلق على الكردي الذائب في العروبة مستعرباً.

لا يكفي أن تكون حقوق الكردي الشخصية، من تعليم وعمل وجواز سفر وجنسية إلى غير ذلك، كبقية العرب وعليه أن يسمع “أمة العرب واحدة”، وعليه أن يتغنى بأمجاد العرب، وهي خاصة بالعرب، والكرد في حلٍّ منها. آخر غبن أن يخطب رئيس وزراء العراق على منبر الأمم المتحدة ويمجد الجيش والحشد ويسكت عن قتال القوة الكردية الشرس ضد داعش، فما معنى هذا، وماذا يترك في النُّفوس؟

تلك الفروض على الكردي جعلته يتطلع إلى أمجاده القومية وبتعصب مساوٍ، لأن الدولة تذكره يومياً بأمجاد نحن العرب وعليه أن يسنى أنه كردي، بينما ذلك حق فطري ورثه عن الآباء والأجداد. فلا يحس بألم الغبن غير الذي يقع عليه، وهذا يُقال لمَن غُبن وطُورد مِن قبل النِّظام السَّابق، وحده بشعر بألمه، وكذلك بمَن جرى تعسف عليه مِن قِبل الوضع الحالي الموجود بقانون اجتثاث أو مساءلة وعدالة، لا يشعر غيره بهذا التَّعسف، بينما الغارقون في نعيم الحالين يستغربون مِن الشَّكوى، وهل رأيت مجنوناً اعترف أنه مجنون، كذلك المتعسف لا يرى نفسه متعسفاً، لأنه ينظر بوجوه حاشيته لا أبعد مِن ذلك. مع الاعتراف، لم يرتفع بناء بالأنبار أو الناصريةفي العهود السابقة، ولم يكن مثله بأربيل والسليمانية ودهوك، تكاد تكون عواصم الألوية متساوية، إلا بغداد على أنها عاصمة البلاد.

لقد انتهى ذلك زمن الغبن وأُخذت الحقوق القومية كافة، مع حصة معلومة مِن الثروة العراقية، فما مبرر الحديث عن تجزئة العراق؟!مع ذلك مِن حق الكُرد الانطلاق مِن ذلك الغبن وهضم الحق بتصعيد مطاليبهم، التي بدأت بعدالة ومساواة ثم حكومة ذاتية، ففدرالية (نحو 1992)، فـ كونفدارالية ودولة مؤخراً، وأتحدث هنا عن الأحزاب الكردية وإدارة الإقليم لا الكُرد على العموم، ولستُ ضد مطلب مِن هذه المطالب، مع رفاهيتهم أين تكون. لكن لا أرى حقاً لهم في إلغاء تاريخ العِراق ووجودهم ضمنه قبل 1921 بكثير، وكأنهم يبحثون عن مبرر للخروج مِن تسمية مكان اسمه العِراق. مَن الأقدم بالوجود مدرس بريطاني في أكستر أم مدحت باشا(قُتل 1884)؟ كي يحتفى بأمثاله ليلقي أكاذيب على أن هذا العراق مصطنع كي يُفرح مَن يتشفى بتجزئة العراق؟ مَن الأقدم سايكس بيكو  أم اسم أربيلو (الآلهة الأربعة)؟ أتذكر عندما انتهى هذا المدرس من كلمته دنى أحد الأشقاء الكُرد قائلاً لي: “أكيد ستقولون نحن ندفع له، ونحن الكُرد لا نتحمس حماسته”. قال ذلك: لأن الرجل البريطاني يريد إعلان الدولة الكردية فوراً، وتجزئة العراق في تلك اللحظة.

لا مجال لذكر تفاصيل تقسيم العراق إدارياً (1869)، إلى عشرة سناجق واحدة منها شهرزور عاصمته كركوك ويتبع إليه قضاء أربيل، وسنجق آخر اسمه سليمانية (جريدة الزّوراء 1869)، ولا التقايرير التي كتبها الرَّحالون ورجالات الكاثوليكية إلى البابا، ولا خرائط الجغرافيين القدماء، أما معاهدة “سايكس بيكو” فلم تمس العراق بشيء.  لكن ليس معنى هذا أن رؤساء الكُرد لم يحاولوا  ويجاهدوا للحصول على إنصاف، ولما لم يحصلوا عليه ذهبوا إلى المطالبة بمملكة خاصة، بل جرت محاولات معروفة، ومِن حقهم هذا، غير أنه مِن الباطل أن يجري الحديث عن عراق مصطنع(1921)، كي تُدشن في تقطيع أطرافه مهرجانات التَّجزئة. أظن الإصرار على ذلك فيه نوع مِن محاولة اقناع الذات على أن التجزئة حق.

إنه قرار تاريخي خطير، وانتظار تلك اللحظة، غير القادمة قريباً، جعل الكرد يقتربون مِن أنقرة وطهران بقدر ما يبتعدون عن بغداد، بينما وجودهم بهذا الثّقل يساهم في تعديل إتجاه السفينة، لكنهم ظلوا يتصرفون ضيوفاً على بغداد لا مِن أهلها، والضيف عادة لا يزرع شجرة ولا يغرس مسماراً في حائط، فإلى أين يا أشقائنا وانتم “حبال المضيف” لا الغرباء. إن المخاوف قائمة على الانجازات الهائلة،التي أُخذت ولم تعط، في ظل الجنون الإقليمي والعالمي، لا أظن أن موسم التَّجزئة سيكون ربيعاً مورقاً على أحد.

  كتب بتأريخ :  السبت 21-11-2015     عدد القراء :  3747       عدد التعليقات : 0