الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التوافق الوطني : مفهوم انتقالي للمشاركة الديمقراطية وبلورة فكرة المواطنة

في أعقاب انهيار النظام الاستبدادي في نيسان 2003  شهدت الحياة السياسية نماذج من مفاهيم ومصطلحات تبدو مستحدثة لتُجاري التغييرات الحاصلة  في المجتمع وفي موازين القوى المرتبطة بدخول "المكونات" في معادلة تقاسم السلطة السياسية وإدارة الدولة وتوزيع الثروات وغير ذلك مما له علاقة " بتكييف " النظام الديمقراطي ومفاهيمه " وتطويعه" لإرادة المكونات الاجتماعية التي تدخل في التركيب السكاني.

ولم تكن تلك المفاهيم والمصطلحات وما إقتضتها من صيغ وتدابير، جديدة في واقع الحال، إذ سبق لها أن جُرّبت في بلدان نامية أخرى، لكن ما إقترن بها من " إبتكار مُخل" ، خلافاً لتجارب أمم أخرى، هو تحويلها من " طابعها الانتقالي " وما يقتضيه ذلك من إنجاز مهامها المرحلية المؤقتة، سواء في بنية الدولة وهي في طريق التكوّن والإستكمال أو ما هو لازم لها من قوانين ضامنة وحوامل سياسية وبيئة إجتماعية تتفاعل مع متطلبات عبور مرحلة الانتقال الى حاضنة الدولة الديمقراطية المتعددة الأعراق والقوميات والاديان، وهي بالضرورة لا يمكن أن تكون سوى دولة مدنية عابرة للطوائف والأعراق والاديان والمذاهب، بالمعنى الذي لا يلغي خصوصية وهوية أي مكون منها بل يحقق له ذاته وفرادته.

وقد كان ممكناً القبول بـ " مَد " عملية الإنتقال، إذا كان في ذلك ما يعزز فرص الانتقال بنجاح، عبر تكريس العملية الديمقراطية والإرتقاء بها، وتمتين أسس التعايش المشترك، وبلورة مفهوم عقدٍ إجتماعي ضامنٍ يستجيب لتطلعات كل مكوّنٍ دون تعارضٍ أو صدامٍ مع فكرة التعايش والمشاركة الديمقراطية، ودون قسرٍ أو تمييزٍ أو إلحاقٍ أو تهميشٍ وسوى ذلك من تعالٍ قومي أو طائفي أو نزوعٍ للإنفراد بالحكم.

وما جرى في الواقع المعاش حتى الآن هو على العكس من ذلك تماماً، فما تم التعارف عليه بداية، بوصفه مرحلة إنتقالية وظيفتها إنتاج قيمٍ سياسية وقانونية وما يتطابق معها من الأطر والأدوات التي من شأنها خلق بيئة الانتقال الى الدولة المدنية الديمقراطية، أصبح تركيبة سياسية مشوهة لشبه دولة لا تستجيب لدواعي أي طرفٍ أو مكون من المكونات المتشاركة في انتاجها. وشبه الدولة هذه صارت بحكم الاستمرارية كياناً "منغولياً" يُنتج عوامل "إعاقته" ويضفي عليه كل يوم المزيد من التشوهات والإعاقات، وأدى في المحصلة النهائية الى تكريس الصيغة السياسية الانتقالية الى مفهومٍ للدولة القائمة التي لا تستطيع سوى انتاج تشوهاتها .

ومما زاد من وهم القيّمين على تكريس هذه التجربة والحيلولة دون تمكينها من التحول الى البناء الديمقراطي في سياقاته الطبيعية، إغفالها، عمداً أو جهلاً من المشرع، خلق الآلية التشريعية للعدالة الانتقالية التي كان من شأنها التعامل مع كل نتاجات القهر الاستبدادي وأدواته والتعبيرات الإجرائية التي خلّفها النظام السياسي السابق.

ومن بين النتائج التي تتفاعل سلباً حتى الآن في المنظومة السياسية القائمة، نتيجة غياب قاعدة للعدالة الانتقالية، التناقض الحاد الذي يشهده الصراع السياسي الدائر بين الكتل المتنافرة طائفياً وسياسياً في إنجاز تشريعات ديمقراطية تكرّس الحريات العامة والخاصة، بسبب الإنحيازات غير المحددة بمفهومٍ دقيقٍ لفكرة الحقوق والعدالة. ويبدو هذا صارخاً في التحريم البرلماني على سبيل المثال للبعث، كحزبٍ ومنظومة سياسية، من جانب ، ودعواتٍ من تحت الطاولة لإشراكه في عملية المصالحة الفوقية .!

لكن الأشد وقعاً على إعادة معافاة المجتمع ينعكس في ما يتعرض له مَن يُلاحِق فرداً بشبهة الانتماء السابق للبعث، وإن كان الانتماء مجرد انضمامٍ مصلحي دون ولاء .!

واذا كان التوافق الوطني التعبير الأكثر شيوعاً في العراق الجديد للدلالة على مشاركة المكونات في أطار المرحلة الانتقالية المزعومة، فإن ما بقي منه من أطلالٍ متصدعة، لم يجد له من ديمومة مشوهة غير بُنية " المحاصصة الطائفية " وهي غير قادرة إلا على تدمير ذاتها عبر انتاج أسباب تشوهاتها، والحيلولة دون اي إمكانية للانتقال الى بناء دولة تتعافى من ادران الفساد والانفلات والتخلف والإيغال في تمزيق النسيج الاجتماعي، والنزوع نحو التشرذم والإنقسام ..

  كتب بتأريخ :  الخميس 21-01-2016     عدد القراء :  2859       عدد التعليقات : 0