الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
معلمي فائق بطي

ما كان فائق بطي صحفياً عادياً ... كان صحفياً من طراز خاص، ومن معلمي المهنة المحترفين الذين يستفزّهم أدنى خطأ لغوي أو تحريري يرتكبه صحفي مستجد، لكنهم مع ذلك ينكبّون على تعليمه الصحّ بحنو أبوي وطول أناة.

يوم قابلته  وتعرفت عليه وجهاً لوجه لأول مرة في أحد أيام العام 1969، كان هو من الكواكب االساطعة في سماء الصحافة العراقية، أما أنا فكنتُ لم أزل طالباً في قسم الصحافة بكلية آداب جامعة بغداد. كتب هو مقالاً ينتقد فيه الطريقة التي يجري بها تدريس الصحافة في القسم الذي لم تكن دورته الأولى قد تخرجت بعد ، فتجرأتُ لأكتب مقالاً غاضباً رداً على مقاله،  فكان أن نشره من دون إبطاء ولا تعديل. بعدما تخرجتُ وبدأتُ عملي في بلاط صاحبة الجلالة أدركتُ أنه كان على حق في ما كتب وأنني كنتُ في الواقع متعجلاً في ما كتبتُ، متأثراً بتصور أن الوسط الصحفي التقليدي الذي ينتمي اليه فائق بطي غير راغب بتخرج منافسين من الصحفيين الجامعيين (لم أكن يومها أعرف أن فائق بطي هو نفسه صحفي جامعي متخرج من الجامعة الاميركية في القاهرة).

بعد بضع سنوات (1973) جمعتني "طريق الشعب" بفائق بطي الذي كان واحداً من ثلاثة هم أكثر من عملتُ معهم وتعلمتُ على أيديهم في السنوات اللاحقة (الإثنان الآخران  هما شمران الياسري – أبو كاطع ويوسف الصائغ). كان فائق مثل زميليه معلماً كبيراً، بقيتُ بعد ذلك أتعلم منه كلما جمعني به عمل مشترك في المنفى لثلاثة عقود ممتدة ثم على مدى السنوات الأخيرة هنا في بغداد، وهنا في "المدى" بالذات. حتى في لقاءات الأنس كان فائق بطي معلماً بملاحظاته وانتقاداته الرصينة التي كان يتمسك بانتقاء كلماتها الأنيقة، بشياكة هندامه وبأناقة روحه الجميلة، ويحرص على إلقائها مرفوقة بدعاباته المحببة، وبمنتهى التواضع على الدوام وفي كل الأحوال.

لأننا في زمن أغبر يموت المعلم فائق بطي، وقد تجاوز الثمانين من العمر، بعيداً عن مدينته، بغداد، من دون أن يحظى عن مسيرته الصحفية الحافلة ومنجزه على صعيد كتابة تاريخ الصحافة العراقية، بأي تكريم من الدولة، وهو الذي كان سيُمنح جوائز الدولة التقديرية في أي بلد آخر.

ومن مفارقات زمننا الأغبر الحالي أيضاً، أن فائق بطي الذي تولّى، في فترة من حياته، رئاسة تحرير واحدة من أهم الصحف في تاريخ البلاد، هي صحيفة "البلاد" التي ارتبط تاريخها باسم والده الصحفي المرموق روفائيل بطي، وأن فائق بطي الذي كان، إلى ذلك، أحد مؤسسي نقابة الصحفيين العراقيين (1959)، إلى جانب محمد مهدي الجواهري ويوسف إسماعيل البستاني وعبد الله عباس وعبد المجيد الونداوي وحمزة عبد الله وصالح الحيدري وحميد رشيـــــد وسواهم، مات غير معترف به من نقابته بعدما تولّاها بعض (الدمبكجية) وسواهم، مع سبق الإصرار والترصّد من أحزاب الورع المزيف والتقوى المغشوشة، أحزاب الإسلام السياسي !

عندي، لن يموت فائق بطي لأنه أحد معلميّ في المهنة وفي الحياة.

شكراً فائق بطي، لأنك كنتَ لي معلماً... جائزتك التقديرية مني ومن كل تلامذتك وزملائك ورفاقك، حبّ كبير  .. متواصل.    

  كتب بتأريخ :  الإثنين 25-01-2016     عدد القراء :  2472       عدد التعليقات : 0