الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
زمن فائق بطي

يكتب ماركيز في ذكرى رحيل بورخس: أن المتميزين لا يرحلون كأفراد، يرحلون، باعتبارهم مرحلة متوهجة ، صار رحيلهم خاتمتها،  بدأ فائق بطي  يكتب للأمل والحياة  وفرحة الناس  ، وانتهى بعذابات المرض والغربة  في مستشفيات لندن ، لن يكتب أحد من بعده لتاريخ الصحافة العراقية الذي أراده ان يظل نقيا متوهجا ،  ولن يكتب المؤرخون  من بعده  حكاية نضال وتعثر صاحبة الجلالة ، فقد كان  في إمكانه أن يحوّل مجموعة من تفاصيل هذه المهنة إلى حكاية يتداولها الصحفيون  . وكان يلتقط من اروقة الجرائد ،  ومن احاديث الصحفيين ، ومن السياسة، ومن الثقافة ، ومن التاريخ ، ومن النضال ، ومن هدير المكائن ، ليحوّلها كلها إلى كتاب نادر . وإذا كانت  حكايات الصحافة  هي الباقية  ، فإن فائق بطي هو حكاية الصحافة العراقية  ، التي سنعود اليها كلما اخذنا الحنين الى زمن النقاء والرفعة والاناقة في اللفظ والسلوك والوجدان  .

ينتمي  فائق بطي  إلى طائفة من الناس  الأثيرين على القلوب ، صحفي ومثقف  ومؤرخ  يتمتع بعبقرية لها طعم خاص ، يترك أثراً في النفس، حين تشاهده تشعر وكأنك قرأت كتاباً ممتعاً، فعند هذا الكاتب  قدرة عجيبة على تشرب الثقافة والحياة الكامنة خلف هذه الثقافة..

كانت قامته الباسقة كشجرة، الوجه الآخر لسيرته الواثقة وقناعاته الراسخة وإيمانه العميق بالنهايات المنتصرة لقيم التغيير والثورة والعدالة الاجتماعية، لقد أدرك على نحو مبكر اننا يجب ان نعيش عصر المستقبل، كان الإيمان بالمستقبل  يتخلق تدريجيا في وعي  فائق بطي  وبسبب شغفه بقضايا الناس  التي تفرغ لها والتي أغوته بإمكانية أنطاق الكثير من المسكوت والوصول من خلالهم الى عالم جديد.

كان يدرك بأن قيمة الحياة في المستقبل،المستقبل الذي دفع من أجله أجمل سني حياته مشردا من منفى الى منفى، فقد عاش فائق بطي  مثل كل المثقفين الأحرار مرارة المنفى، حين كُتب عليه ان يتنقل من بلد الى بلد، متواريا عن أجهزة القمع وقسوة الاضطهاد، مكتوبا عليه ان يكفر عن "جريمة" التفكير الحر .

ولأن الوطن، لم يكن بالنسبة لفائق بطي ، وطناً بالمعنى المجرد، ترسمه ذكريات وأحداث، ولا هو وطن، تحدده سياسات ومبادئ،وإنما الوطن كان اشبه مغامرة، مغامرة ليست فقط في العيش في بلاد هي الأخطر وإنما في بلاد هي العشق، العشق الذي يحتم علينا ان نبني هذه الارض ونصنع وجدانها وقيمها.

بالامس طويت الصفحة الاخيرة من حياة فائق بطي ،  وانطوت  معها تقاليد ومعان لصحافة متميزة  ،  توقفت الرحلة  ،  لم يعد المعلم  يتفرّد في البحث والكتابة والاستقصاء والضحكة والنصيحة والابوة الحانية  ، كلما أراد شدّنا إلى عالم النقاء وصفاء المعاني  ،  مرحلة ومضت وجيل اسدل الستار بغيابه .

وداعاً ايها المعلم كلمة سنرددها وننشرها ونجعلها بيارق من العناوين الواضحة عند الازمنة والامكنة ؟  وسنظل نتذكر اننا عشنا في زمن فائق بطي .

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 26-01-2016     عدد القراء :  3192       عدد التعليقات : 0