الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
\"علوة\" الوزارات و\"سموكن الوزراء\" في مقاهي حسن عجمي والبرلمان والزّهاوي والشابندر ..!

اعترض الصديق الزميل عدنان حسين على ما ورد في إحدى الافتتاحيات الأخيرة من توصيف "الزمن الجميل"بإطلاقٍ دون تحفظ، وذكَّر بما تعرّضْنا له من ويلات في ذلك الزمن الغابر "الجميل"، مقترحاً استبداله بـ "بعض الزمن الجميل"..! لم أجد يومها ضرورة للدخول في مناقشة "وجدانية"أكثر مما هي سياسية حول نعتي لذلك الزمن، واستحداثي ملحق "عراقيون من زمن التوهّج"من مقالتي حول الفقيدة نزيهة الدليمي، وأبدع الصديق المتفرّد بحيويّته ومبادراته علي حسين في إصداره بانتظام.

لكنّني كلّما عشتُ مرارة واقعنا ورثاثة أحوالنا وانسلاخنا عن ركب التطوّر والحضارة، بل وتخلّفنا عنها نصف قرن إن لم يكن أزيد،أزددتُ تشبّثاً بتوصيفي لذلك الزمن. وليس للتوصيف علاقة بتزكية النظام الذي كان يُهيمن عليه الإقطاع والكومبرادور والطفيلية الاجتماعية، كذلك لا أضع "بعض"ذلك الزمن في مقارنة مع زمن عبد الكريم قاسم الذي لم "يخدش"توهّجه في الارتقاء بحال العراق عموماً بما أنجزه في فترة قصيرة من إعمارٍ ونموٍّ وازدهار، ما ارتبط بالمرحلة من سلوك سياسي نال من الحريات بأدواتٍ مضادّة لثورة ١٤ تموز مما مهّد لانقلاب ٨ شباط الأسود .

واليوم أجدني من جديد أحاكي ذلك الزمن الجميل بتوريات سياسية ، يريد البعض من طُلّاب "الحقائب الوزارية"استعادتها كـ"ملهاة"، بعد أن أعاد التاريخ نفسه علينا كـ "مهزلة"تجد تجلّياتها في كلّ ركنٍ من أركان حياتنا الملغومة بالتابوات الساخرة من عقولنا ..!

فما أن أعلن السيد العبادى توجّهه للاستعانة بـ "التكنوقراط"، حتى ازدحمت مواقع الشبكة العنكبوتية بالباحثين عن معنى هذا الضيف الوافد على حياتنا السياسية. ثم انتشرت مثل النار في الهشيم الإشاعات العشوائية حول تطبيقات المصطلح على من يجد في نفسه "شيئاً"من التكنوقراط ، وهو ما شوّش، كما يبدو، على السيد العبادي نفسه  وجعله في حيرةٍ من أمره في التصرّف لاحقاً وهو يضع معايير اختياراته لوزراء كابينته التكنوقراطية. وقد صارت مواقع التواصل الاجتماعي "حاملة "متبرّعةً لوجه الله إشاعات طُلّاب الحقائب الوزارية. ولا تتوانى مواقع عديدة عن الذهاب أبعد من ذكر الأسماء، بل تُسهِبُ في صياغة أخبار مفبركة عن استدعاءات رئيس الوزراء لذوات بعينهم وعرض وزارات عليهم واعتذارهم عن قبولها لسببٍ في نفس يعقوب، أو لاستنكافٍ عن تولّي وزارة مقترحة بدلاً من وزارة سيادية أو عودةٍ إلى مناصب ملغاة. ويبدو من تطاير الإشاعات وكثرتها، أنَّ وزارة السيد الجعفري (الخارجية) هي الأكثر إغراءً في سوق الوزارات المنتهية صلاحية وزرائها.

وأعود إلى السبب وراء محاكاتي في هذا المورد للزمن الجميل أو بعض ذلك الزمن كما يرى الأُستاذ عدنان حسين. ولم يكن قد تمّ اختراع أُعجوبة زمننا هذا، الشبكة العنكبوتية، وما يتفرّع عنها من وسائل المعلوماتية والاتصالات، فكانت المقاهي الشعبية والنخبوية الحامل البديل عنها . فمنها تنطلق الإشاعات وما يترشّح من معلوماتٍ سريّة أو ملفّقة، أو تسقيطات اجتماعية وسياسية ، تُمرّرها جهاتٌ منافِسة، أو تسرّبها الأجهزة الأمنية ويتداولها الروّاد بقصدٍ أو من دون قصد.

ومن أشهر تلك المقاهي،حسن عجمي والبرلمان والزهاوي والشابندر. ولكلٍّ منها خصوصيتها وروّادها، وكانت هي ملتقى "بهوات"ذلك الزمن وفقاً لتراتبيات اجتماعية تحدّد اختيار المقهى. ومما يُحسب ،شكلياً، لذلك العهد أنّ التآمر والصراعات بين الأقطاب ونوري السعيد وولي العهد عبد الإله لا تُخفى ، إذ سرعان ما تتطاير الأخبار من الأقطاب، أو يُسرّبها القصر أو مكتب نوري باشا أو الوصي، لكي تُضفى عليها أنواع التوابل السياسية في المقاهي المذكورة، وتتحول إلى مطابخ الأحزاب المعارضة لتحليلها وتناولها بما يتناسب مع اتجاه الحزب المعني.

وما أن يُعلن عن إسقاط أو إعفاء الحكومة وتكليف من يتولّى تشكيلها، حتى تدخل المقاهي المذكورة في موسمها الذهبي، فتزدحم بالروّاد  وتُحجز المقاعد للبهوات حسب المكانة والمنزلة . وقبل أن يلتقي المكلّف بالمَلِك أو الوصي، تجد تغيّراً واضحاً على بعض الروّاد من طُلّاب الحقائب الدائمين، إذ يطغى"السموكن"عليهم ومظاهر أخرى توحي بامتلاك ما يُرتجى من الوزير القادم. ولا تخلو تلك المقاهي من الطارئين عليها من الفضوليين ومقتنصي الفرص للتعرّف على أصحاب الحظوظ في الوزارة الجديدة. ومن الطرائف التي كان يتبادلها هؤلاء، إذ يلتقون في الطريق إلى أحد المقاهي الموصوفة، حين يَسأل الواحد منهم الآخر: وين رايح ؟ فيُجيب وين يعني! غير رايح مثلك إلى علوة الوزارة الجديدة ..؟! فيسخر الآخر منه قائلاً :حَظّي راح اتظل غشيم واتروح لعلوة الشابندر، ليش ما عاجبك شربت حجّي زبالة ؟! . وكان محل  حجّي زبالة الأشهر في بغداد يومذاك جنب مقهى حسن عجمي، وتوزيع الشربت كان يدور على الزبائن طوال أيام الترويج للوزارة الجديدة ووزرائها مجاناً، وكذلك الشاي، ويتنافس على دفع أثمانها مطلقو الإشاعات حول ترشيحهم من قبل الملك أو الوصي أو الباشا، ولا ينقطع توزيع شربت حجّي زبالة وشاي حسن عجمي، ومعه صياح الجايجي: الوير الجاي على معالي ..... وزير ....!

أحد أصحاب "الويرات"كان مُدمناً على طلب الوزارة ، ومواظباً على كسب المريدين ، لكنّ إدمانه فرض عليه تغيير المقهى الذي يرتاده، بعد أن يكون قد صار مكشوفاً، فيحيط به الطارئون "طُلّاب الويرات "المجانية"فيُقنعونه باختيار مقهى الشابندر لمجاورته محلّ "كبّة السراي "المشهورة، ثم مقهى الزهاوي لقربه من مطاعم كثيرة بالإضافة إلى لبن أربيل ..!

يومها كانت مقاهي البهوات تعِجُّ بالرّواد التكنوقراط، على قلّة من تأهّل منهم  للقب بجدارة وهو يحمل شهادات معتبرة من أرقى الجامعات في بريطانيا. ولم يكن المصطلح مُلتبساً على أحد سوى أنها كانت تلفظ "تكنو كراط" ..

حصل أنَّ أحدهم ظلّ يُعيد على رُوّاد مقهىً أنّه استُدعي للقصر سرّاً وعُرضت عليه أكثر من وزارة. ولم يكن للمذكور ما يتميّز به من "سموكن" أو سدارة جديدة  سوى تلميع شاربه المتميّز بطوله ولفّته . وقد فوجئ وهو يسرد حكاية لقائه بالوصي"المُلفَّقة" بولده يقبل عليه راكضاً وهو يصرخ: يابَه يابَه ... إلْحَكـٍ ...شَحمَة شُوارْبَك أكْلَتهَا البَزُونَة .. !

يا له من زمن يظلُّ بعضه جميلاً .. أين منه هذا الزمن؟!

  كتب بتأريخ :  الإثنين 29-02-2016     عدد القراء :  3129       عدد التعليقات : 0