الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مشاعر حيدر العبادي الإصلاحية و الحزن الجماهيري الإحتجاجي ..

1. من )الناحية الدستورية) يعتبر العراق بلداً ديمقراطياً. منذ سقوط الدكتاتورية عام 2003 تجري فيه الانتخابات البرلمانية بشكل منتظم بالرغم من أن غالببية الانتخابات لم تكن حرة ولا نزيهة.

2. من )الناحية النظرية) يتمتع كل مواطن بالحقوق المدنية والدستورية بالرغم من أن البرلمان العراقي في دوراته الثلاث لم ينصف ملايين النازحين ولم يضم أي ممثل لغالبية الشعب من الفلاحين الفقراء الأميين والعمال الكادحين النقابيين.

ربما ينظر القاريْ إلى هاتين النقطتين بشيء من التندر وهو محق من الناحية (الواقعية) الراهنة.. ولو كان شارلي شابلن حياً في هذا الزمان - وهو الاكثر وعياً سياسياً في المجموعة السينمائية الكوميدية - لاستطاع أن يدمج الرثاء الفني والرؤية التراجيدية في تحليل الواقع العراقي المعاصر ليجعل منه فكاهة تقود إلى وعي واستبصار يمكنهما انقاذ الرئيس حيدر العبادي وكابينته القيادية من الركود والتشوش في الرؤية السياسية واقناعهم أنهم ليسوا معصومين من الخطأ ، كما يعتقدون، وأنهم بشر وليسوا أنصاف آلهة .

تاريخ العراق، كما هو معروف، تاريخ حضاري – ثقافي مليء بالفن والفكر والقانون والسلام بالرغم من أنه تعرّض للغزو والحروب منذ آلاف السنين. تراثه التاريخي جعله بلداً عظيماً وهو يحتوي على آثار وأطلال الحضارة السومرية والبابلية والآشورية وغيرها. بعض الرجال أصبحوا مشهورين في هذه البلاد على نطاق العالم ،كله، ابتداءً من كلكامش حتى طه باقر وعبد الجبار عبد الله ومحمد مهدي الجواهري والمتنبي وعبد الكريم قاسم وجواد سليم ومصطفى جواد ومصطفى البارزاني وعبد الله كَوران ومهدي المخزومي وغيرهم بالمئات والآلاف، لكن سوء حظ بلاد الرافدين أنها لم تحظ برائدٍ مصلحٍ استطاع أن يكون مخلّصاً للأمة العراقية أو مصلحاً اقتصادياً، خصوصا ما بعد تحرر العراق من دكتاتورية صدام حسين الدموية عام 2003 عندما غزا الامريكان والبريطانيون أراضي بلادنا بوصفهم ممثلين وورثاء للتنوير الديمقراطي العالمي. لكن احدى اهم مفارقات التاريخ العراقي أن الغزاة الليبراليين المحتلين الجدد لم ينّصبوا على كرسي السلطة الجديدة اتباعهم من الليبراليين السياسيين، بل عمدوا ، بوعي أو جهل، اختيار الطائفيين السياسيين على أساس إرتباط الديانة وطوائفها بالطبقة السياسية، التي هي طبقة متطلعة ليس الى تطبيق العدالة الاجتماعية، بل الى تحقيق الطبيعة الرأسمالية تحت وطأة التقسيم الطائفي – الطبقي، الذي اوصل البلاد إلى خراب في كل شيء .. خراب في البنى التحتية وخراب في البنى الفوقية وتخريب في اقتصاد البلاد ونهب أمواله حتى غرق كل شيء بهمومٍ، لا تعد ولا تحصى، في كل بيت وفي كل مؤسسة.

ارتبطت السياسة العراقية بسلطاتها الثلاث خلال 15 سنة بالنشاط السياسي الواسع من دون تحقيق أي مستوى من مستويات الرفاهية والعدالة ، من دون قدرة الكثير من قادة البلد على التحرر من إدخال (الديانة) و(الطائفية) و(السحر) في تسيير أمور الدولة الجديدة، للتستر على حالات الفساد المالي والإداري والسياسي..

باختصار يمكن القول أن كثيراً من عناصر السلطة الحاكمة لا يعارض منجزات الطب الغربي ولا المناهج الميتافيزيقية الغربية ولا استخدام الكاميرا والتلفزيون والموبايل، لكن يسيطر عليهم فزع متأصل من الافكار التنويرية ومن الديمقراطية الحقيقية مما جعلهم غير قادرين على القيادة والإنجاز أستحقوا مطالبة الجماهير بعملية (الشلع) من كراسيهم كما عبّر السيد مقتدى الصدر في مظاهرة يوم 26 – 2 – 2016 بساحة التحرير.

صار كثير من الناس العراقيين ، متدينين وغير متدينين، من الطبقات الكادحة والوسطى ، وهم الاكثرية ومعهم بعض الرأسماليين الإسلاميين الجدد يتطلعون بعد 13 سنة من الارهاب والعذاب الى (إصلاح) وإلى (مصلح)، إلى (تغيير) و(مغيّر).. يتطلعون الى حداثة الفكر العالمي السائد بالبلدان الاوربية المتقدمة المتميزة بعقلانية التنوير الديمقراطي.

احتل ،في هذه الأيام ، نقاش ثقافي واسع وعريض في صالونات المنطقة الخضراء وخارجها ، في مكاتب الرئيس العبادي ومستشاريه، في الصحافة الحرة ، أيضاً ، وفي كثير من الفضائيات، بعد فشل حكومة الدكتور حيدر العبادي في تحقيق اصلاح كبير تعهد به في أول يوم من أيام تشكيل (حكومته الاصلاحية) من دون أن ينتبه ، جدياً وجذرياً، إلى خطورة مزج السياسة بالدين وبسط الديمقراطية أمام أقدام الطائفية ، مما أضاع فرصته الكبيرة في تصنيف المعرفة الأوربية ، التي عاش جزءً منها في أثناء وجوده لاجئاً سياسياً في بريطانيا.

لم يستطع التحرر من المعرفة غير الديمقراطية اللصيقة بوجوده الطائفي ضمن عضويته الشخصية في حزب ديني، عقائدي، طائفي، لم يتحرر من إضمامات الأوهام والخرافات. عجز حتما عن إنشاء رؤية واضحة لبناء دولة عصرية بالرغم من علاقته بالسلطة العليا وقيادتها المباشرة ( سلطة نوري المالكي) خلال 8 سنوات متتالية. نتذكر جيداً أن حزب حيدر العبادي عجز طيلة 13 سنة من ممارسة ديمقراطية شعبية، جديرة بالاحترام في محافظات وسط العراق وجنوبه، حاله مثل حال أغلب قياداته. لم يستخدموا أدوات الاحترام في علاقتهم مع الجماهير.. لم يتخلصوا من سياسة اقصاء وتهميش غيرهم من الوطنيين، بل ركّزوا على سياسة طائفية ، مكشوفة ومتسترة، تعاطفوا فيها مع انفسهم ومع غيرهم خلال وجودهم على رأس السلطة .

يمكن القول أن (الطائفية السياسية) أوجدت نظاماً فريداً، باهراً، لصيانة أخطاء وخطايا المسئولين عن إدارة الدولة العراقية الجديدة، حتى وصل الحال بالوقت الحاضر إلى حد يمكن القول عنه أن أي منهج إصلاحي إنكليزي أو نرويجي أو هولندي لا يمكن أن ينقذ الوضع السيء في الدولة العراقية .

في أول يوم استلام الدكتور حيدر العبادي قبل عام ونصف بشّر العراقيين أنه سيقوم بإصلاح ما افسده الاحتلال الامريكاني ورجال الحكم الطائفي وأفعال الفساد خلال 13 عاماً. أعلن عن رغبته في الإصلاح الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، لكن الزمن الطويل مضى سريعاً من دون أن يحقق هذه الرغبة، حتى أنه لم يتجاوز حدود ما فعلته ،قبله، الطبقة السياسية الطائفية بصورة أوجدت حالة القطيعة التامة بين عاطفة الجماهير المتظاهرة في ساحة التحرير وغيرها وبين عقل الدولة المتخلف عن أي إنجاز. انهارت خلالها العلاقة بين (الديني) و(الدنيوي) بعد أن بحّ صوت المرجعية الدينية المنادي بتطبيق إجراءات انسانية عامة في أجهزة الدولة لتقديم أبسط خدمة إجتماعية لجماهير الفقراء، المظلومين منذ مائة عام في بلاد الرافدين,

مما لا شك فيه أن حيدر العبادي لديه رغبة وطنية عمومية في ترقية أداء الدولة العراقية كغايةٍ من غاياته الإصلاحية لكن عاماً ونصف من حكمه مضى، ولم يبرهن ولا يوماً واحداً ولا بقضية عراقية واحدة ، أن الجغرافيا السياسية التي ينتهجها متوافقة مع أية (نهضة حديثة) ولا مع أية (ثورة إدارية) إنما عاش خلالها بأجواء خانقة من الارتياب والمؤامرات الوهمية . ثمة تباين واضح وخطير بين (دراسته) النظرية الحديثة في انكلترا حين كان طالب دراسات عليا وبين (تطبيقاته) في العراق، التي لا يمكن تصنيفها بأي شكل من الاشكال باعتبارها تصنيفا معرفياً إدارياً حديثاً.. بمعنى أنه لم يبرهن اية صورة فعّالة للثقافة العلمانية الادارية البريطانية ولا اية معرفة ادارية اكاديمية تكنوقراطية, إنما أدّت سياسته إلى شلل في ممارسات وخيال الموظفين العراقيين ،كلهم، وقد نشأ، من جرّاء ذلك، استياء شعبي عراقي شبه شامل.

يتسرب إلى ذاكرتي ،في هذه اللحظة، مكالمة تلفونية جرت بيني والدكتور العبادي حين كان وزيراً للاتصالات عام 2003 ، اثناء زيارتي إلى بغداد، كان فيها خط تلفون منزلي مسروقاً من قبل سيدة من سيدات منطقة المنصور. تحدثتُ بعد تعددية الاتصال بمدير مكتب الوزير اكثر من عشر مرات. أخبرت الوزير حيدر العبادي انني مغترب قادم إلى بلدي وقد وجدت تلفوني مسروقاً بينما مهنتي الصحفية تستدعي حاجتي الماسة إلى تلفون بيتي المسروق خطه. أجاب الوزير العبادي أنه سوف يدرس المشكلة (دراسة عميقة) وأنه سيقوم بـ(الاجراءات اللازمة) لإعادته، لكنه لم يفعل شيئا بعد هذه المكالمة، التي اجريتها بحضور الصديق موفق محمد صالح الموظف في أمانة العاصمة، الذي امسك بتلفون جاري لمخابرة صديقه المهندس في بدالة العلوية فأعاد خط تلفوني خلال نصف ساعة ..!

في الاسابيع الاخيرة ازدادت خطابات الرئيس العبادي في الاجتماعات وفي الشاشات التلفزيونية بشكل حاد وعصبي عن (الدراسة العميقة ) وعن (الاجراءات اللازمة ) أيضاً. موجهاً النقد العصبي والحاد الى الآخرين من زملائه الوزراء والمسؤولين في الدولة مؤكداً أنهم لم يدرسوا مهماتهم (دراسة عميقة) ولم يقوموا ب(الاجراءات الضرورية). لكن نسيج كلامه ولونه وتكوينه لم يحمل ولا مرة واحدة أي نوع من (الصراحة) عن (المسئولية الذاتية). لم يمارس نقداً ذاتياً صريحاً لاخطائه الشخصية وأخطاء مستشاريه كأنه معصوم عن الأخطاء، بينما نسمع ونرى نقائض واضداداً مفجعة في سياسته ومواقفه الشخصية من مصائب الدولة العراقية الراهنة.

حان الوقت الآن بعد 13 سنة من الفساد والخراب والتخريب أن يبدأ الدكتور حيدر العبادي أو أي رئيس بديل غيره بإعداد تصميم لمشروع دولة مدنية حقيقية واستحضار الأساليب والقوى الضرورية اللازمة للخلاص من تنظيم الدولة الإرهابية (داعش) وإنقاذ الشعب عاجلاً من حياة قاسية اشد القسوة تمهيداً لبناء مستقبل فيه خير يتناسب مع خيرات أرض الرافدين وما تملكه من ثروات.

أكثر ما يقوله الرئيس العبادي حسن، لكن (الأقوال) لا تعيد الإطمئنان إلى أبناء الشعب وأجياله. ينبغي أن يقضي الرئيس وقته بـ(الأفعال) ورسم الخطط وتنفيذها للقيام بأعمال إيجابية. إننا لم نُخلق، في هذه البقعة من العالم، للاقتتال وللصراع وللفساد ولنهب المال العام، وأن يتنزه حكامنا في بلدان أخرى متقدمة ومرفهة.على الرئيس العبادي أن يخلّص شبابنا من ابشع الشرور، أعني البطالة، وأن تتضمن خططه وخطط وزرائه - سواء كانوا تقليديين أو تكنوقراط - لبناء بيوت يسكن فيها الناس الفقراء تتوفر فيها وسائل العيش المريح.. على العبادي ووزرائه وجميع البلديات أن يجعلوا الطرق والشوارع مستقيمة نظيفة يتوفر فيها الماء النظيف الصالح للشرب والغسيل، وأن يسخّروا للناس طاقة كهربائية للإضاءة والتدفئة والتبريد كي تصبح النساء قادرات على تربية اجيال عراقية جديدة .

هذا الحال موجود ومتوفر في كل قرية ومدينة مرّ بها أو سكن فيها أو درس فيها الدكتور حيدر العبادي أيام كان يعيش في بريطانيا. إنني اشاهد كل يوم في هولندا اصنافاً مختلفة من البنايات والعمارات الشاهقة كنوادٍ رياضية واجتماعية ومستشفيات متخصصة ومدارس وجامعات ومعامل ومزارع وسدود يقوم بإنجازها عمال هولنديون بلمح البصر وبحماس لا مثيل له تحت شعار نيو هولاند (هولاندة جديدة) . لا تسمع منهم اسم طائفة أو دين أو مذهب أو (مكونات) أو (محاصصة) ، بل جميعهم مواطنون يسعون للعيش في بيت جميل اسمه هولندا مثل فرنسا او السويد أو ألمانيا.. بمقدورهم ان يعملوا ويرتاحوا ويكونون سعداء بالتساوي في الخيرات والهناءة.

لا بد من تذكير الرئيس حيدر العبادي أن الصراع في الدول المتقدمة موجود فعلاً وحتماً لكنه صراع بين (المشروع الأحسن) و(الأحسن منه)، بين (المهندس الأفضل) و(الأفضل منه) بين (الوزير النشيط) و(الأنشط منه) بين الفكر الأفضل والأفضل منه.

امنية شعبنا أن يستطيع رئيس الوزراء أن يحقق طفرة إصلاحية فجائية أولى بتخليص العراق من الصراع الحزبي المقيت، من الصراع المذهبي والديني والاثني ، من الفاسد والأفسد منه ، من السارق والأسرق منه ، من المجرم والأجرم منه ، من جميع العادات الحيوانية .

من دون هذا وذاك لا يكون هناك اصلاح ولا تغيير ولا بناء ولا إنسان صالح ومتعلم.

حياتنا الحالية زاخرة بالكوميديا السياسية السوداء ومن الضروري أن يكون البدء لتغييرها بالعمل على تغيير جوهر (الإنسان السياسي) العراقي وجعله غير مكتف بالجلوس على كرسي السلطة، بل بتغيير وجه السلطة، تغييراً كلياً نحو الأحسن والأفضل إدارياً وديمقراطياً.

يستطيع الرئيس العبادي تحقيق نقطة تحوّل عراقية سريعة إذا ما أدرك، أولاً وقبل كل شيء، الروح النقدية في التعامل مع نفسه ومع الاخرين من فريقه.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 04-03-2016     عدد القراء :  2940       عدد التعليقات : 0