الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عبور الطائفيّة السياسيّة ومحاصصاتها يعني فصل الدين عن الدولة لا غير ...

تقاذفتني صباح أمس، بعد أن انتهيت من قراءة بعض مواد ملحق "منارات" المكرّس لاستذكار جورج طرابيشي، مشاعر متناقضة، وداهمتني فكرة عبثية حول كل ما يدور من حولنا من أحداثٍ وصراعاتٍ ننقاد وراء ظاهراتها  من دون تمعّن في دواخلها وما يحركها في العمق، والدوّامة التي تلفّنا دونما نهاية أو قرار.

فنحن أمام إرادتين سياسيّتين من مدرسة الإسلام السياسي تشدّان مصائرنا الى مجهولٍ قد يكون معلوماً لبعضنا، وكأننا بهما سينتهيان بنا الى ما نريد من خلاصٍ يفكّ قيودنا من سلسلة منظومة المحاصصة الطائفية ويعتقنا من شبكات الفساد والمافيات التي لم تترك لنا ما يمكن أن يبقى لنا ذخيرةً ، حتى وإن تحقق لنا ما نريد من خلاص، رغم أن ذلك ليس سوى أضغاث أحلام .

السيد الصدر يطمح  لإنهاء المنظومة الطائفية المُستهلكة، فيُشكل لجنة خُبراء تضع خارطة طريقٍ لتحقيق هذا الهدف النبيل، يختارها "سراً" من دون أن ندري من هم الذين استشارهم في الاختيار، وما هي صدقية انطباق معاييره في "النزاهة والكفاءة والوطنية والماضي النظيف" على كلٍ من أعضاء لجنته، مع إبداء التقدير لجميعهم وتجنب أي تشكيكٍ بهم. ويحسب للسيد الصدر أنه بادر بإعلان أسماء اللجنة على الملأ. وبهذا أكد قدراً من التقدير للرأي العام، خلافاً للسيد حيدر العبادي الذي أبقى طي الكتمان الشديد من أختارهم أعضاء في لجنة خبرائه، كما هي الحال مع كل خطواته وحزمه الإصلاحية التي فاجأ بها الكل، باستثناء من اختارهم من الصفوة الخُلّص له شخصياً  !

نحن الآن أمام نحو مئة شخصية اختارها السيد الصدر لتتشكل منها الحكومة، وليتوزع من يبقى منهم على المناصب العليا الاخرى في الحكومة والدولة. وفي نفس الوقت يتحضّر السيد العبادي لطرح أسماء من اختارهم له أحد أسوأ النماذج السياسية شُبهةً وسويةً وتاريخاً لكابينته التكنوقراطية،  من دون أن يحترم عقولنا وإرادة شعبنا في أن يُعرّفنا سلفاً على هؤلاء الذين يتوقف إصلاح ما أفسدته الحكومات المتتالية منذ ٢٠٠٣. وفي الحالين، مع فارقٍ في الوسائل والأداء، من خلال الصراع المحتدم داخل التحالف الوطني وفي المنطقة الخضراء المنكفئة على نفسها وفي الشارع العراقي المُبتلى، تجري محاولة إيهامنا، ونحن ننساق الى ذلك، كما لو أنّ تشكيل وزارة تكنوقراط أو مستقلين كاملي الاستقلالية وإجراء تغييراتٍ في المناصب العليا، هما الوسيلة لإنهاء المحاصصة الطائفية والطريق لتفكيك بؤر الفساد والتفسخ السياسي والأزمات المتفاقمة وإنهاء الإرهاب الداعشي وتوفير الأمن والاستقرار و"دوام تدفق الرواتب والمعونات الشهرية" للشعب العراقي الملتاع .

إنّ أحداً لا يسألنا عما إذا كان هذا الخيار أو ذاك من  الخيارين المتصادمين، من شأنه الاستجابة لتطلعاتنا، لأن الطبقة المهيمنة على إرادتنا لا تنظر الى العراقيين إلا باعتبارهم قطيعاً عليه أن ينقاد لأولي الأمر فيهم، وهم من صفوة الإسلام السياسي !

وإذا كان هذا ديدن الحكام في كل زمانٍ ومكان يتولى فيهما مستبد أو جائر، فما الذي غيّب وعي الناس الذين لا يتمعنون في ما  حولهم ليستخلصوا أن هذا الذي يجري لا علاقة له بما يتطلعون إليه من خلاص، إذ يستحيل أن يقود بأي شكلٍ من الأشكال عملية عبور المنظومة الطائفية الى المواطنة والدولة المدنية، إنما هو وسيلة من وسائل " تدوير"  الأزمة والتحايل على منطق التغيير لإجهاض أي حراكٍ جدي للإصلاح والشروع بالتحول نحو ديمقراطية المواطنة، بديلاً عن تحاصص أُمراء الطوائف!

أنا موقنٌ بأن السيد الصدر يريد تغييراً، وموقنٌ أيضاً أنه لا يريد ان يكون رئيساً للجمهورية أو لمجلس الوزراء، وإذن كيف له أن يطمئن الى سير ما يريد من إصلاحاتٍ وتصفية مظاهر الفساد ومراكز نفوذ الفاسدين؟  في أي إطار " شرعي" سيبقى ممسكاً بدفّة توجيه الأمور،  وبأي وسيلة شرعية ، وتحت أي مظلةٍ مسلحة؟

لم أجد في  كل البيانات، وطنية الطابع، التي جاءت في خطب السيد الصدر وتعاليمه وتوجيهاته للمتظاهرين ثم الى المعتصمين، إجابةً صريحة مباشرة منه، على سؤال مركزي يضع النقاط على الحروف بصدد إنهاء المنظومة الطائفية ومحاصصاتها وتقاسم حيتانها لمغانم  السلطة: هل انتهى سماحته الى استنتاجٍ جوهري مفاده أنّ تحقيق هذا الهدف والانتقال الى قاعدة المواطنة في الدولة المدنية الديمقراطية التعددية يعني بوضوح "فصل الدين عن الدولة" وتمدين الأحزاب " الإسلاموية"، وإنهاء أي مظهر للاستقواء بغير الدستور والقانون بعيداً عن حمل السلاح خارج الدولة؟

إذا كان كذلك فسأنتقل، ما أن أتوثّق من ذلك إلى صف السيد الصدر وأدخل في خيام المعتصمين .

ما أدهشني صباح أمس وأنا أقرأ "ستّ محطات في حياتي" للمفكر الكبير الراحل جورج طرابيشي، الذي كتبه قبل شهر من رحيله، أنه ذكر في مقالٍ نشره في أواخر أيار عام ٢٠١١ بعنوان سوريا: (النظام من الإصلاح الى الإلغاء) ، "أن سوريا المتعددة الأديان والطوائف والإثنيات تقف بدورها على أبواب جحيم الحرب الأهلية ما لم يبادر النظام الى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه، فغير هذا الإلغاء لا سبيل آخر إلى إصلاحٍ سلمي يصون البلاد من الدمار"!

  كتب بتأريخ :  الخميس 24-03-2016     عدد القراء :  3168       عدد التعليقات : 0