الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
حين تتوسّد السياسة مُتّكآت الثقافة وحين تتغرّب عن روافدها

في الحياة صراعاتٌ وحروبٌ وغزواتٌ لا تستخدم فيها الأسلحة النارية، وتكون "أسلحتها" أمضى فعلاً وأبعد أثراً وأعمق تأثيراً. وللثقافة وأدواتها مثل هذا التأثير، لكنها تبني وترتقي وتراكم الخبرة وتُعيد خلق ما في الطبيعة، وتمنحها جمالاً وحضوراً آسراً تتشكل منها مباهج الحياة، وتطوّعها لمآرب البشرية على تنوعها وتعدد أجناسها.

في حقبة الستينيات من القرن الماضي، شهدت الحركة الثقافية في بغداد ملاسناتٍ مكتوبة بين المثقفين حول أولوية الثقافة أو السياسة، ودور كل من المثقف والسياسي في المجتمع. وكان هذا الجدل مظهراً من مظاهر الانكسار والنكوص والتدهور الذي أعقب انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ الأسود. ونتجت عن ذاك الجدل مدارسُ أدبية وفنية ونقدية واصطفافاتٌ كان ممكناً أن تتبلور في أطرٍ أكثر وضوحاً لولا عودة البعث الى السلطة وإضفاء أنساق تشبهه على الحياة السياسية والثقافية.

والواقع أنّ العلاقة بين السياسة والثقافة كانت وما تزال متلازمة دائماً في الاتجاهين، فكلما كانت الثقافة تشكل ثقلاً في الحياة السياسية، بمعنى التلاقح بين السياسي والثقافي، انعكس تأثير ذلك في العمل السياسي المباشر، خصوصاً على صعيد النشاط الحزبي، وفي شتى مناحي الحياة الاجتماعية ومراكز الدولة وخدماتها أيضاً. وكان للعكس التأثير السلبي الذي بلغ مدىً كارثياً في واقع العراق اليوم.

وهذا الاغتراب الثقافي الذي يلازم الحياة السياسية يتخذ مظاهر كثيرة وينعكس بأجلى صوره في أساليب العمل، وفي صياغة البرامج الحكومية، وفي التشريعات والمفاهيم والمصطلحات والقيم التي تسيّدت في المجتمع وعلى صعيد الدولة الفاشلة.

ويتبين جانبٌ منها في التجاذبات التي شهدها الصراع بين الكتل ورأس الحكومة حول وجهة الارتقاء بالقيادة الحكومية لتكون بمستوى المهام الإصلاحية التي طرحها رئيس مجلس الوزراء  خلال الشهور الماضية، والتي انتهى الى صياغتها بـ "حكومة التكنوقراط" المستقلة. وأظهرت المناقشات وردود الفعل والتداخل النظري، خلطاً ملفتاً في المفاهيم والمصطلحات، وبينت "الفقر الثقافي" والاغتراب عن الثقافة بالمعنى العام للثقافة وليس بإطارها الإبداعي بين أوساط الطبقة السياسية الحاكمة، وهي ليست سوى نتائج مباشرة على ما أصاب البلاد خلال بضعة العقود الأخيرة، من تراجعٍ في التعليم ومناهجه ووسائله بمختلف مراحله ومستوياته، وتدهورٍ في الحياة الثقافية، وتخلّفٍ عن مواكبة التطورات العاصفة التي جرت في ميادين العلوم والمعرفة والفنون،واستعصاءٍ في الوصول الى مراكزها وحواملها ومنجزاتها.

إنّ التراكم المعرفي في المجتمع هو الذي يجعل من الممكن تحقيق تغيراتٍ كيفيةٍ فيه، وليس ممكناً اعتماد "سلة ثقافية " مقطوعة عن سياقاتها الاجتماعية المعرفية، لفرض واقعٍ مغايرٍ مجتزَأً يتلخص في تغيير وزاري جزئي أو شامل، سواءً حمل إيقونة تكنوقراطية مستقلة أو متحزبة! فالبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هي الكفيلة بالتفاعل مع ما يُراد له أن يكون منصةً وأداةً للإصلاح والتغيير، وليس عناوين هذه المنصة و"مخرجاتها" كما يُعبّر ساسة الإسلام السياسي . ويمكن ملاحظة أثر "الخديعة" غير المقصودة في كل الأحوال، في وعي الناس البسطاء الذين لا يبحثون عن عناوين ومصطلحات مموهة، ومجردة من المعنى في التطبيق العملي، غريبة عن مجتمعٍ تعرّض للتجهيل على مدى عقودٍ، وقامت فيه تابوات تجهيلية خلال سنوات القحط التي امتدت منذ ٢٠٠٣ حتى يومنا هذا، وإنما يريدون خلاصاً مما هم فيه من محنة عيشٍ وفوضى وانعدام أفق وغياب أبسط مستلزمات الحياة البشرية الكريمة.

كنت أُريد، وأنا أكتب، تناول ما لأهمية الثقافة على السياسة، على هامش معرض الكتاب الدولي  الذي افتُتح صباح أمس الثلاثاء في أربيل برعاية كريمة من الرئيس مسعود بارزاني، وتأثيراتها على بيئة المجتمع وسويّة القيادات السياسية، ولم أجد في النهاية غير ما جاء في هذا المقال، متجاوزاً الالتزام الذي قطعتُه لعدد من الأصدقاء، باعتماد اللغة الثالثة "المباشرة" في الكتابة.

ويبدو أنّ الكتابة عن تلازم الثقافة والسياسة في زمن الجهالة "التنكنوقراطية" شَدّتني إلى ذاك الزمن، حيث لم تكن السياسة قد دخلت في كهف الاغتراب عن السياسة، فتهتُ في مدياتها ..!

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 06-04-2016     عدد القراء :  3276       عدد التعليقات : 0