الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
تباً لك قلمي، ومعك أنا

-1-

للأمانة أقول:

هذه المادة ليست سرد لمسيرتي الحياتية الغير مهمة، بل يمكن اعتبارها جواب مطوّل لأسئلة يطرحها من يستغرب من إصراري على أقحام نفسي في مواضيع يتصوّرون بأنها لا تخصني، أو يمكن تجنبها تحت رايى (طزّ) كونها تجلب لي المشاكل، وادفع ثمن كبير بسببها، بينما غيري يفهم اللعبة جيداً، ومنهم من لا يتدخل أبداً في أمور أجتماعية او سياسية او حتى دينية، ويفضل ان يعيش حياته منعزلاً ويكتفي، ومنهم من فهمها أكثر مما نتصور، ولا يدخل في نشاط ما او علاقة إلا لغاية ما! ،  إنما دخولي في بعض الأنشطة يمنحني شعور مرضي بالأنتماء، وإلا أصبحت رقماً في عداد الجموع الآلية التي منهجت حياتها لتكون خارج المجتمع ومحسوبة عليه.

سخافات تستهويني؟

في الوقت الذي كان فيه الطموح يخضع إلى أرقام حسابية مادية بحتة، كانت رغبتي أن أكون في وظيفة اخلص لها، علماً بأنني لا أجيد أي حرفة، وكنت شديد الأعجاب بالذين يتهيأ لي إنهم مثاليين وقد يكونوا كذلك، هذا عندما كان دوام الموظف ينتهي الساعة الثالثة ظهراً ويتقاضى ما يكفيه كي يعيش (بالدفعات) في عراقنا الحبيب.

أعرف إنه طموح غبي، لكن هذا ما كان عندي حتى أتت الخدمة الإلزامية الحقيرة في جيش القائد الضرورة الذي سحق الأنسان.

ولو كان للبعض مثال أعلى، إلا أنني لم ولن يكون لي هذا (الهيرو)، والوحيد الذي يمكنه أن يأخذ هذا الدور هو والدي، ليس بشهادته الهندسية التي نالها عام 1955، بل لأنه مخلص فعلاً وطيب القلب ويتفانى في خدمة الأخرين، وأسمه نظيف جداً، وقد كنت  أعجب حقيقةً بمن له السمعة الحسنة، والأمين في مجتمعه وعمله، خصوصاً عندما يفتخر أحدهم بكم شهادات التقدير التي حصل عليها كونه يحمل تلك الصفات،

- ولا أحب على قلبي أكثر من شخص يستحق التقدير، ومسؤول يعرف كيف يقدّر -

كائنات تسحق بعضها البعض

في عمرالمراهقة، وبينما كنت أتبادل الحديث مع بعض الحرفيين ويخبرونني بأنهم تعلّموا مهنتهم بعد أن كانوا (صبيان) يهانون ويُشتمون من معلّميهم، وبذلك يفتخرون!! كون من داس كيانهم بحذاءه، قد علمهم شيئاً مفيداً ينتفعون منه! ولولا المهانة لما عرفوا السير في الحياة رغم الأستكانة! وهم يفعلون ذات  الشيء مع صبيانهم، ظنّا منهم بأنهم مؤتمنين على تعميم هذا الأسلوب التعليمي الراقي وما يحتويه من أحتقار لأجيال قادمة! وحسب توقعي، هذا الأسلوب لو درس في معاهد تقنية، لما تخرّج طلبتها بقساوة أصحاب المهن الحرفية.

كنت انزعج  منهم، وبودي ان أبصق بوجه من يتفاخر بتأريخه الذليل الذي يعتبر خرق لكرامة الأنسان بدءً بكرامته!

في المدرسة أيضاً، كم استسخفت بيت الشعر القائل: قُم للمعلم تبجيلاً، كاد المعلّم أن يكون رسولا!! أي رسول هذا الكائن المليء عجرفة! ومن ذاك السادي الذي أرسله لسحق كرامة اطفال لهم غدٍ قد يكون مشرق! وهنا أستثني المحترمون منهم وهم من لديهم رسالة فعلاً للطلاب، وليس مجرد مهنة تمنحهم سلطة يستغلونها للشتم والضرب.

في المدرسة وانا ما زلت طفلاً بريئاً، ضُربت وشُتمت بسبب من شاغب، لأن وزارة التربية والتعليم في العراق، إن كان فيها التعليم فهي تخلوا من التربية، وعندما عبرت الطفولة للمراهقة، بدأت مسيرة جديدة في حياتي، ولم يعد هناك من يتجرأ من المدرسين على رفع صوته او مجرد التفكير بشتمي وإيذائي، ليس لكوني طالباً ذكياً او شاطراً ومؤدباً كما كنت في الطفولة، بل لأنني دخلت في صراع أثبات الوجود، لذا تحوّل هذا الطفل المؤدب إلى مشاغب كبير وليس مسيء، فقد حافظت على علاقاتي حتى مع بعض المدرسين، لكن في الوقت نفسه أملك أحتقار كبير لمن يتجاوز الأخلاق في التعامل.

في المجال الرياضي،  كان جسمي يساعدني لخوض أيً منها، وعندما قررت أكثر من مرة أن أكون بين فريق، أتفاجيء في اليوم الأول بأسلوب المدرّب الفض وقباحة لسانه، وكأنه قائد قطيع وليس فريق، وأعود أدراجي بالرغم من كفائتي البدنية.

أما أكثر المناظر مؤلمة لي هو تقبيل الأيادي والأنحناء! وكأن الأحترام لا يظهر إلا بطأطأة الرؤوس وأذلالها! وكنت حينها ميال للألحاد، ولم أجد وما زلت مبرراً منطقياً يشرّع تقبيل أي يد وإن كانت للوالدين، ومنيتي أن لا أشاهد هذا المنظر المحزن والذي بسببه تخلّفت الأمم وتحولت من أوطان إلى ثكنات عسكرية!

عندما انتقلنا من منطقة المشتل إلى الميكانيك، وجدت ضالتي هناك، حيث شاءت الظروف أن أكون قريباً من الكنيسة وطلاب الدير الكهنوتي، تعلّمت وتعلمت وتعلمت، فأستطعت من بعدها أن اكون من بين المعلمين بخبرة متواضعة جداً وحب كبير،ومع الأخوية والجوقة وكل ما يُطلَب منّي أعمله بلا تردد، لأجد ذاتي فيه، ورأسي مرفوع مع أخواتي وإخوتي، وكانت أجمل سنون حياتي.

لم أخرج فارغاً، بل محملاً بما ينفع

خدمت من كل قلبي وفرحت بالكل هناك، لكن الخيارات لم تعد متوفرة، فخرجنا من وطننا مرغمين حفاظا على عزة النفس، ولم نجد من يعرفها في الأردن، فشدينا الرحال إلى الحبيبة لبنان.

في الأردن قضينا ثلاث سنوات مليئة بالخدمة الكنسية واحياناً الإجتماعية، ورغم مرارة الدولة ومن فيها وحتى جوّها، إلا أن الصحبة كانت رائعة ومازالت قائمة رغم السنون.

في لبنان، كنت وسط مجموعة أيضاً، وكان لي دوري الذي اعمله من أجلهم ودورهم من أجلي، وبينما كنت أعيش في وضع مادي مزري، وبحكم عملي كمرؤوس من قبل رئيس متعجرف، قلقت باديء الأمر من أن ينالني من التحقير نصيب، في الوقت الذي لا أقبل بوجود رأس أعلى من رأسي، فأما أن يكون بنفس المستوى، او اقل، وهذا مبدأ لا افهم غيره ولا أقبل ببديل عنه، فالكرامة متساوية لمن يعتبرها من المقدسات، وهذا ما لا يعيه كلا المتعجرف والخاضع.

رئيسي في العمل، وبعد فترة وجيزة، رفع صوته بوجهي، وما ان انهينا ما كنّا به، وقبل خروجه، وإذا به يتفاجأ بيدي تمسكه بقوة، وقلت له: أطلب ما تريد وسأفعل بطيب خاطر، لكن أياك أن ترفع صوتك بوجهي مجدداً وعيناي تشع غضب!

عرف من بعدها كيف يتعامل معي، لكن وعلى قول المثل (العادة إللي بالبدن لا يغيرها غير الجفن)! كان يحاول مرات إستفزازي، وكان يلقى ردة فعل يفهمها جيداً، وهو يدرك لا بل متأكد من أنني وبالوقت الذي فيه مخلص ومثابر في عملي، إلا أنني أضرب كل شيء بركلة من قدمي لو مسّت كرامتي بسوء.

ورئيسي كان يملك فيلا، وتوسطت ليسكن فيها عائلتين يهمني أمرهما، وشائت الظروف أن يصبحا عدم،وكان لي ما أردت مقابل أهتمامهم بها، ولأنه متعجرف ودكتاتور، فقد كان يتصرف بسلبية أحياناً، وعندما أردعه، يخبرني باليوم التالي من إنه نوى على إخراج العائلتين من المنزل، لذا أضطر بعدها إلى الخضوع، وقبلت المهانة على نفسي أكثر من مرة لأجل غيري، لكن هيهات ان أقبلها لأجلي، فالموت أشرف.

وبعد فترة وبمساعدة الطيبين، حصلوا على عمل وتركوا الفيلا، ومن ثم وبأقرب تجاوز منه، أخذ رد مناسب جداً، وعرف حجمه وبكل هدوء ودون شتائم، وما ان حاول تهديدي بترك العمل، قبلت التحدي وأخبرته في اليوم التالي بأنني سأتركه، وسألته عن المدة التي بأمكانني أن أبقى في العمل، فتفاجأ وقال على الفور كما تريد، ففلت له حدد لي الفترة، فقال ستة اشهر او أكثر، فقلت له، شهران لا أكثر، فطلب مني ان أختار شخصاً مناسباً للعمل، وفعلاً أخترت له أحد الأصدقاء، علماً بأنني كنت اسكن مجاناً وليس لدي رسوم أضافية كالكهرباء والماء، وحاول أكثر من مرة أن اعيد النظر في تركي العمل بأسلوب مبطّن حيث يترك الكره في ملعبي، ولم افكر حتى بإعادتها له كي أقطع كل محاولة منّي او منه في أن اثني على قراري، وحاول معي الكثيرين أيضاً، وجوابي كان دوماً: أما أن اكون مؤمناً بالله ولا أخاف ولا أقبل ان تمس كرامتي والتي هي هبة منه ونعمة، او باطلاً إيماني.

الغاية من هذا السرد الممل والمزعج

هذه المقدمة الطويلة والغير مجدية وضعتها كي أقول بأنني افضل الأستجداء على الأهانة بحجة عمل أكسب منه لقمة عائلتي، لأن إيماني يقول بأن الذي يحافظ على كرامته، الله معه في الأزمات، ولي عشرات الأختبارات بذلك.

وهنا أطرح سؤال لمن يعنيه الأمر، إن كنت في لبنان لا أملك اوراق ولا مادة، ولا خيارات في العمل، وفي اي يوم معرّض للسجن والترحيل، لم اقبل الخضوع واخترت الحرية، فهل يعقل أن اقبل تسلط شخص مهما كان في كندا، وكلامي يتجاوز العمل، ليشمل كل مناحي الحياة.

هل للخدمة حدود، وهل الجود بالموجود؟

قبل أن وطأت قدمي أرض كندا، كنت أسأل عن ما سأفعله في هذا البلد الذي سيحتضنني وأجيب: يهمني ثلاثٌ

لا أكذب – لا أعمل كثيراً – لا أسكت عن خطأ

الكذب لم أسيطر عليه، وكثير من الأمور للأسف الشديد تجعلني لا أقول الحقيقة، والعمل الكثير مجبور عليه، وكلاهما ينطبق عليهما المثل: الضرورات تبيح المحضورات.

أما ان اقول ما أريد ولا أسكت عن خطأ فهذا عملت عليه كثيراً، وكل يوم أرى نفسي محاصر بمن له القدرة على (لصمي).

العراق الدكتاتوري هو العراق، ليس بأرضه وإنما بشعبه، لذا علينا الحذر من كل مسؤول وفي كل المجالات، حتى في الخدمات المجانية، فأما أن تكون خاضعاً، او متملقاً او قرداً، ويفضّل أن تكون نعجة كي يرضى عنك أصحاب الفخامة والكياسة، اما الحل الأمثل فهو أن تكون خضاعاً بتملق، وقردٌ مستنعج.

لا يهمك الله – ولا الضمير – ولا المبدأ – ولا ان تشعر بأنك عنصر فعال من أجل شعبك وناسك، يجب أن يكون همّك الوحيد أرضاء المسؤول والشعب المطيع!!

وبعد جهد جهيد، وصراع عتيد، جراء العمل مع كل مسؤول عنيد، قائد أعلى وحيد، ذو رأي سديد، جالساً على الكرسي سعيد، كلامه ما شاءالله، تهديد ووعيد، تمت مكافأتي ببوري على رأسي من حديد، فما الجديد ببلد الجليد؟

اتذكر في إحدى المساومات معي، طُلِب مني أن أترك ما أحب وما أنا أجد نفسي فيه لأشهر كي يعالجوا بعض الأمور التي تثار بسببي، فأجبت المفاوض الإنتهازي حينها مقتبساً المثل المصري: حلمة وذنك أقرب

واليوم أسوء من الذي سبقه، والأختيار فرض حاله بين الخنوع من أجل الآخر

وبين أن أعلن إستقلاليتي من أي نشاط او ارتباط في تنظيمِ ما، كي يبقى قلمي حراً

فأي كفة هي الأرجح؟

 يتبع .....

zaidmisho@gmail.com

  كتب بتأريخ :  الجمعة 08-04-2016     عدد القراء :  3387       عدد التعليقات : 0