الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الحراك المدني والجماهيري: إصلاح شكلي أم تغيير جذري؟

   يواجه العراق حالياً مجمع متشابك من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية والبيئية، إضافة إلى ما نجم عن الاجتياح الوحشي من تفاقم في أزمة الملايين من النازحين والمهجرين قسراً ومعاناتهم اليومية المريرة/ ومن ثم التدخل الخارجي غير المنقطع في الشؤون السياسية والاجتماعية اليومية للعراق، أزمة النازحين والمهجرين قسراً ومعاناتهم اليومية المريرة، ومن ثم التدخل الخارجي في الشؤون السياسية واليومية للعراق، وكذلك الحرب المشتدة ضد عصابات داعش. ولا شك في أن هذه الأزمات والأجواء المتوترة المحتدمة تعتبر نتاجاً طبيعياً ومنطقياً لطبيعة النظام السياسي الطائفي القائم بالعراق ونهجه في المحاصصة الطائفية ومولوديهما التوأمين، الفساد والإرهاب، السائدين بالبلاد. كما إن كل ذلك يتفاقم يومياً، بسبب التمييز والتهميش والإقصاء والتطرف، ومن الدور المتفاقم للمليشيات الطائفية المسلحة التي تفرض رقابتها وهيمنتها وابتزازها المالي على النشاط الاقتصادي لسكان بغداد وبقية المحافظات، إضافة إلى أزمة الديمقراطية والمشكلات المالية وتعطل الحياة الاقتصادية المتفاقمة بإقليم كردستان العراق. ثم موقف الأحزاب السياسية الإسلامية والقومية الحاكمة والرافضة لعملية التغيير التي تطالب الجماهير الواسعة، عملية الإصلاح الشاملة، التي تعني بوضوح شديد إنهاء النظام السياسي الطائفية ومحاصصاته والتحول السلمي صوب النظام المدني الديمقراطي. إن مجموعة من المؤشرات التي يقدمها لنا الوضع الراهن بالعراق تساعدنا على رؤية وجهة التطور القادم وإشكالياته وسبل التأثير فيه لصالح المجتمع العراقي وتقدمه الحضاري :

   1. تنامي نسبي ملموس في الوعي الاجتماعي المخالف لمنهج الحكم الطائفي السياسي، لما مارسه هذا النظام من مصادرة للحريات والحقوق الأساسية وما تسبب به من اجتياح واحتلال وموت وخراب ودمار واسع وفقر مدقع لنسبة عالية من سكان العراق وبطالة متزايدة. ومما زاد في الوضع سوءاً هيمنة الفساد كنظام شامل ومعمول به، على مستوى السلطات الثلاث في الدولة العراقية الهشة، إضافة إلى الانهيار السريع لأسعار النقط الخام المصدر.

   2. وبالاقتران مع تطور الوعي وإدراك حقيقة الوضع بالعراق بدأت القاعدة الاجتماعية الشعبية المعارضة تتسع باستمرار، إذ إنها لم تعد قادرة على العيش في ظل الأوضاع الراهنة المتدهورة بسرعة كبيرة، وخاصة تلك الفئات الكادحة والمعوزة، إضافة فئة المثقفات والمثقفين ودماعات من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة.

   3. كنا لم يعد في مقدور الحكام الحالين، حكام الصدفة والزمن الرديء، رغم مناوراتهم، الاستمرار بحكم البلاد بالطريقة التي حكموا فيها خلال سنوات حكمهم المنصرمة.

   4. وفي ظل هذه الأوضاع، بدأ يتشكل تحالف اجتماعي-سياسي في الشارع العراقي قوامه قوى اجتماعية عديدة، منها: جماهير واسعة محرومة ومضطهدة، بسبب الظلم والفقر والتمييز والتهميش والإقصاء، فئات من البرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة، التي لم تعد قادرة على تأمين عيشها وعملها، فبدأت أوساط منها بالهجرة، جمهرة واسعة ومُلهِمة من فئة المثقفين والمثقفات. هذا التحالف المحتمل الذي فرضه الشارع بين القوى المدنية، وقوى كتلة الحرار الدينية، يمكن أن يلعب دوراً أفضل وأوسع لو تبلور بشعارات سياسية ذات طبيعة وأهداف مدنية وديمقراطية ملموسة تسرع في تغيير الأوضاع الراهنة ومن العملية السياسية الفاشلة، رغم القلق المشروع الذي يصاحب الموقف منها.

   5. وإزاء هذا الوضع المستجد، بدأ الجميع ينادون بالإصلاح، سواء أكانوا حكاماً، أم قوى معارضة للحكم القائم، أم قوى دينية، كانت إلى الأمس القريب، مؤيدة وداعمة للنظام الطائفي السياسي القائم، كالمرجعية الدينية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية، التي بدأت تتحدث عن المجتمع المدني وعن ضرورة الإصلاح!

   6. إلا إن هذه القوى التي تنادي بالإصلاح متباينة في ما بينها في ما تريده من عملية الإصلاح، هل تريد عملية شكلية لا تغيير للنظام الطائفي ومحاصصاته المذلة الذي لم يعد مقبولاً، أم عملية إصلاح جذرية، بمعنى التغيير السلمي الديمقراطي الفعلي للنظام الطائفي السياسي القائم والمحاصصة الطائفية باتجاه إقامة الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية التي تعتمد مبدأ المواطنة الحرة والموحدة والمتساوية، وتبني المجتمع المدني الديمقراطي.

   وإذا كان الأمر كذلك، فما هو العامل المعرقل للتغيير؟

   أرى بأن هناك أربع عراقيل أساسية تواجه عملية التغيير والتي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية :

   أولاً: يشير ميزان القوى في الدولة العراقية الهشة إلى اختلال فيه، فهو ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، التي لا تريد من حيث المبدأ الإصلاح، بل تريد فترة من الزمن لعبور المرحلة الحرجة الراهنة وخنق المد الثوري السلمي المتنامي المطالب بالإصلاح والتغيير بأساليب المراوغة والخداع بهدف البقاء في الحكم، فهي ما تزال تسيطر على المراكز الأساسية والحساسة في السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء، إضافة إلى المليشيات الطائفية المسلحة التي تشكل جيشاَ موازياً للقوات المسلحة العراقية بشكل خاص.

   ثانياً: ضعف القوى الديمقراطية وعدم ائتلاف القوى المناهضة للنظام الطائفي السياسي والمحاصصة الطائفية، وعدم تشكيلها جبهة مدنية ديمقراطية عريضة بإمكانها فرض التغيير في ميزان القوى لصالحها ولصالح التغيير في النظام القائم.

   ثالثاً: ابتعاد القوى والأحزاب الكردستانية عن التعاون والتضامن والتحالف مع القوى الديمقراطية العربية والقوميات الأخرى، حليفها الدائم، منذ سقوط النظام الدكتاتوري البعثي حتى الآن، وتغريد القيادة السياسية والحكومة والأحزاب عموماً خارج السرب الذي يفترض التعاون في ما بين قواه والتصدي للواقع الطائفي والأثني القائم.

   رابعاً: التدخل الخارجي الإيراني في الشأن العراقي ودعمه للأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة المرتبطة بإيران، وتلك القوى التي ترتبط بالسعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى، إضافة إلى المساومات المشينة والمناهضة لمصالح الشعب العراقي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.

   ولهذا فأن الحاجة تشير إلى ضرورة العمل الشعبي الدؤوب لتغيير ميزان القوى من خلال كسب المزيد من الجماهير التي ما تزال في معسكر القوى الحاكمة إلى الشارع العراقي، وكسب أغلب القوى والأحزاب الكردستانية، إلى جانب الأهداف التي حملها المتظاهرون والمعتصمون في شوارع بغداد وعلى أبواب المنطقة الخضراء، حيث سكن المسؤولين في السلطات الثلاث، والكثير من السفارات الأجنبية. وهي عملية معقدة وضرورية وملحة.

   إن انحياز قوى التيار الصدري إلى جانب المتظاهرين والتداخل النسبي بين هذه الجماهير وجماهير الحراك المدني الشعبي، يمكن أن يدفع بقوى أخرى من الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة ومن القوى الأخرى ومن الأحزاب الكردستانية لتصطف إلى جانب قوى التيار المطالب بالإصلاح والتغيير الفعلي. إنها عملية صيرورة وسيرورة مهمة وممكنة رغم المصاعب التي تواجهها والتعقيدات الخارجية التي تتعرض لها. (قارن: ندوة المدى "سياسيون وناشطون في ندوة المدى للإصلاح: "الحراك الحالي ينبئ بتشكيل كتلة تاريخية قادرة على فرض التغيير", مداخلة الدكتور فارس كمال نظمي، 12/3/2016)

   ويمكن أن يساعد ويعجل السير بهذه الوجهة عدد من المسائل المهمة، منها بشكل خاص:

   1. إعلان التيار الصدري التزامه بالتظاهر والاعتصام السلمي الديمقراطي، وهو ما أعلنه بصواب حتى الآن، والدعوة لإقامة نظام سياسي مدني وديمقراطي، بحيث يمكن أن يلتحق بالتظاهر والاعتصام جماهير جديدة مؤثرة وفاعلة على تغيير ميزان القوى.

   2. جذب المزيد من أبناء الشعب الكردي والكرد الفيلية والمسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين والتركمان، وكذلك أبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى، إلى جانب المتظاهرين والمعتصمين ببغداد وبقية المحافظات، ممن تعرضوا للتمييز والتهميش والإقصاء والاضطهاد والنزوح والتهجير والقتل بالجملة منهم، وهم الذين يشكلون نسبة عالية من الشعب العراقي.

   3. وإذا ما أدركت الأحزاب السياسية الكردستانية وقياداتها السياسية بأن الإصلاح والتغيير هو في صالحها وليس ضدها، وحين لا تتشبث بالمحاصصة الطائفية والأثنية، رغم إن سكان الإقليم لهم موقع خاص باعتبارهم يشكلون شعباً بجوار الشعب العربي، كما إن فيه قوميات أخرى كما هي موجودة في الجزء العربي من العراق.

   4. وإذا ما أمكن التأثير الفعلي على جزء مهم من الوسط الحكومي الحالي، إذ إن التغيير لا يريد إبعاد الجميع، بل يريد رفض الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية، إذ إنهما أنجبا الإرهاب والفساد، وهما وجهان لعملة واحدة، ومحاربة الفاسدين ومن تسبب في أوضاع العراق الراهنة.

   5. ولا بد أن يتوجه النضال ضد ثلاث محاور أساسية مهمة :

   أ‌. مواجهة وجود دولة موازية للدولة العراقية وقوات مسلحة موازية للقوات المسلحة العراقية، وقوى تمارس جباية الضرائب من الشعب بالقوة عبر نفوذها السياسي وميليشياتها المسلحة ونظامها السياسي الطائفي.

   ب‌. إذا ما أمكن إيقاف التدخل الخارجي في الشأن العراقي الجاري حالياً على قدم وساق.

   ت‌. كما لا بد من تغيير وجهة الإصلاح، بحيث لا تقع أعباءه على كاهل الجماهير الكادحة، كما عليه الوضع حالياً، بل على كاهل الأغنياء والميسورين والحرامية باستعادة الأموال المنهوبة. (قارن: ندوة المدى "سياسيون وناشطون في ندوة المدى للإصلاح.. , المصدر السابق نفسه، مداخلة الدكتور مظهر محمد صالح، 12/3/2016)

   إن المتابعة المدققة للأوضاع بالعراق تشير إلى أن رئيس الحكومة، الذي ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية، ومرتبط بالتحالف الوطني الشيعي وقراراته، عاجز حتى الآن عن التحرك الجاد، رغم وعوده بالإصلاح ورغم تأييد المرجعية الدينية الشيعية له، ورغم المظاهرات المؤيدة للإصلاح. إنه ليس متلكئاً، بل هو يخشى التفريط بنظام سياسي يعتبر نفسه جزءاً منه حتى الآن. وحزبه بالذات، والجزء الأكبر من تحالفه الوطني، يرفضون الإصلاح باتجاه الابتعاد عن المحاصصة الطائفية، وهو ما ترفضه الأحزاب السياسية الكردستانية حتى الآن أيضاً. وهو خلل كبير لدى الأخيرة، إذ لا بد من تغيير الوجهة لصالح التغيير الذي يخدمها قبل غيرها.

   إن المراوحة في المكان من جانب أغلب قوى الإسلام السياسي، التي تنطوي على رؤية مبسطة ومبتذلة واستبدادية خطرة، تراهن على تعب المتظاهرين وتراجعهم عن المطالبة بالإصلاح الجذري، أو تراهن على فرض قرار على رئيس الوزراء باستخدام العنف، وبالتالي التوجه إلى ضربهم باستخدام القوات المسلحة العراقية والجزء الأكبر من المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة، وهو نهج نوري المالكي والجعفري ومن هم على شاكلتهما في حزب الدعوة والتحالف الوطني، ولكن هكذا سياسية، ستقود إلى تنامي واتساع قاعدة الاعتصامات وانتقالها إلى مدن أخرى إلى جانب بغداد. كما يمكن أن يتنامى الوضع ليتحول إلى عصيان مدني، مما يفرض على رئيس الحكومة التحرك بأحد الاتجاهين: أما الإصلاح والتغيير، وإما التحول ضد المتظاهرين والمعتصمين. ولكن الإجراء الأخير لن يكون نافعاً بأي حال، كما لم يكن نافعاً للمالكي حين مارسه وأدى إلى سقوطه، وسيقود إلى عواقب وخيمة.

   إن قوى الحراك المدني الشعبي بحاجة إلى قيادة واعية وموحدة ومتضامنة أولاً، وبحاجة إلى تنشيط الحوار الشعبي مع قوى التيار الصدري للاتفاق على خارطة طريق سلمية وديمقراطية تتجلى بشعارات ذات أهداف مدنية وديمقراطية واضحة ومواقف غير متعجلة، مواقف ثورية سلمية. وهي بحاجة إلى تعبئة واسعة للشباب والنساء في أوساط المثقفين والشعب عموماً، وإلى إشراك فعلي في التظاهرات والاعتصامات، وإذا اقتضى الأمر إعلان العصيان المدني السلمي، بعيداً عن العنف، الذي تتمناه بعض القوى المشاركة في الحكم والمناهضة للإصلاح باتجاه التغيير الفعلي للنظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، لتستخدمه ذريعة لضرب الحراك الجماهيري.

   من هنا يتبين بإن من أبرز المهمات الكبيرة التي تواجه المجتمع تتجلى في العمل الجاد والدؤوب لتغيير موازين القوى لصالح الإصلاح الجذري والتغيير من خلال كسب المزيد من أوساط الشعب العراقي، بحيث تُجبر القوى الحاكمة على القبول بالتغيير دون ممارسة العنف واستخدام السلاح، وهي مهمة صعبة ومعقدة ولكنها ممكنة وضرورية. إذ إن عدم تحقيق ذلك سيلجئ الحكام إلى المناورة والخداع والبقاء في السلطة.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 08-04-2016     عدد القراء :  2925       عدد التعليقات : 0