الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الطائفية.. رِدة في الثقافة

عندما يساهم المثقف في الغليان الطائفي يقطع صلته بالثقافة البناءة، وبطبيعة الحال ليس كل من نشر مقالاً صار مثقفاً، وهذا لا يعني أن من لا يقرأ ولا يكتب ليس مثقفاً. فالثقافة، قبل كل شيء، حضارة ومعرفة. كم من كاتب لا ينطبق عليه عنوان «المثقف»، إلا إذا عُرفت الثقافة بأنها «كتابة وقراءة» لا أكثر! وبعيداً عن هذا الإشكال استُحدثت عناوين مثل: «ثقافة الكراهية»، «ثقافة الموت»، «ثقافة الغوغاء»، ولنا القول «الثقافة الطائفية»، وسلسلة العناوين تطول.

هذا، ولمفردة «المثقف» في التراث العربي الإسلامي صلة ما باستخدامها الحاضر، وإن لم يُنحت منها مصطلح خاص، فمن معاني المثقف «الحاذق»، والحذاقة تعني «المهارة» (الجوهري، الصحاح)، ونلمح المفردة في بيت لعلي بن الجهم (ت 249ه) راثياً: «وتأوَّهت غررُ القوافي بَعده/ ورمى الزمان صحيحها بسقامِ/ أودى مُثقِّفها ورائضُ صعبها/ وغدير روضتها أبو تمام» (البغدادي، تاريخ بغداد).

بهذا المعنى نفهم الثقافة كضرب من ضروب «الحذاقة»، في الإيجاب والسلب، وأجد في ثقافة الطائفية حذاقة في اللؤم، سرعان ما تُترجم إلى دماء وأشلاء بيد الجماعات الدينية، وللأسف خضع لها شعراء وكُتاب، ومثل هؤلاء يحزننا أمر ارتدادهم الثقافي، حتى صاروا ينقادون لشعارات الغوغاء، ولا أعني الذين أقحموا أنفسهم في عالم الكتابة وما هم بكُتاب، وإن ملؤوا الصحف والمكتبات، وإنما أعني أهل المعرفة وأصحاب التأليف الثري، ممَن غرّهم الخطاب الطائفي فانساقوا إليه، وعادوا يعلنون الانتماء إلى الطائفة لا إلى الثقافة بمعناها الرحب.

تحولت الطائفية أيضاً إلى مكسب للجاه والعيش، ولا يليق بالمثقف صاحب القلم والصوت المدوي أن يفتح دكاناً بها. كتب القاضي أبو علي المُحسن التنوخي (ت 384هـ)، وكان يميل إلى المعتزلة: «حدثني جماعة من شيوخ بغداد، أنه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسل أحدهما بأمير المؤمنين، علي عليه السلام، والآخر بمعاوية، ويتعصب لهما النَّاس، وتجيئهما القطع دارَّةً. فإذا انصرفا جميعاً اقتسما القطع، وإنهما كانا شريكين يحتالان بذلك على الناس» (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة).

إنها واقعة تحصل في مختلف الأزمنة بدرجات، تضعف وتقوى حسب الموسم، إلا أنها في هذا الزمان قد تضخمت، والمساهمة فيها تتم بقصد وبغير قصد، تتوزع الأدوار بين من غلبه التعصب، ومن وجد فيها رزقه (غير الحلال). مع علمنا أن لقب «المثقف»، حتى بين البسطاء، الإنسان المتحضر، المتعالي على النزاعات، الذي يُنظر إليه بعين الإعجاب والحكمة، فعندما يسلك سلوكاً مشيناً يُقال: «فعل ذلك مع أنه المثقف»! بمعنى أن للمثقف منزلة في عيون الناس، تقع عليه مسؤولية اجتماعية وفكرية، يمارسها بسلوكه وكلمته، وإذا بالطائفية تقوده إلى الكتابة على إيقاع الغوغاء!

لو نعود إلى الوراء نجد المثقفين، قبل خمسين عاماً، أسسوا لمعارف ما كانت تتحقق لولا تجاوزهم لمِا بين المذاهب والأديان. فنقرأ في مجلة «العلم» النجفية (1910) تعاوناً ثقافياً بين صاحبها هبة الله الشَّهرستاني (ت 1967) والنجدي سليمان الدَّخيل (ت 1944) صاحب صحيفة «الرياض» ببغداد. ونجد مؤرخ الجزيرة حمد الجاسر (ت 2000) يكتب تقريظاً وافياً لكتاب جواد علي (ت 1987) «تاريخ العرب قبل الإسلام» في مجلة «الرسالة» المصرية (1951)، كتب عنه ما لم أجده عند من كتبوا حول أعمال هذا المؤرخ الفذ. كذلك لم ينشر جواد علي كتاباً لم يستهله بالشكر للشيخ محمد بهجة الأثري (ت 1996)، الذي وقف معه منذ شبابهما وحتى شيخوختهما، كما تعاضد الأثري ومحمد رضا الشّبيبي (ت 1965) لوضع اللَّبنة الأولى للمجمع العلمي العراقي (1947).. غير ناسين وجود النحوي محمد مهدي المخزومي (ت 1993)، الذي وقفتُ تحت صورته المعلقة على بوابة قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود، وعالم النفس نوري جعفر (ت 1991) وزملاءهم كأساتذة في جامعة الرياض، والذين سعى أحد رجالات الإسلام السياسي العراقيين بدسيسة ضدهم، فدافع عنهم وزير المعارف حسن آل الشيخ (ت 1987). وقد سمى نوري جعفر سبطه فيصلاً (لما تلقاه وزملاءه من تكريم من الملك)، واعتزازاً بأيامه في نجد سمى ابنته «نجود». هذا غيض من فيض، فالأمثلة كثيرة جداً على تعالي المثقفين، آنذاك، على الحس المذهبي.

ما يلفت الانتباه، أنه لم يصدر اعتراض من رجال دين متعصبين، مع وجودهم بكثرة، ولو صدر سيهمله أولئك المثقفون، ولم يسمحوا لأنفسهم بالانقياد لذلك الشعور الضحل، مثلما نراه اليوم. نعم، الزمن تغير، والمذهبية وصلت ذروتها، والردة في الثقافة، قبل السياسة، تعني الانهيار. أتصدقون أن أحد المشايخ الطائفيين دعا إلى تقسيم الملاعب على حسب الطوائف! فما بالك في السياسة والثقافة؟ ومع شدة زخم الثقافة الطائفية، لا تجد طائفياً اعترف بطائفيته. أقول: وهل سمعت بمجنون اعترف بجنونه؟!

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 12-04-2016     عدد القراء :  3501       عدد التعليقات : 0