الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
القراءات المغلوطة للتاريخ ودروسها، وما تتركه من أثر سلبي..

من بين الآثار الجانبية أو المباشرة للقراءات القاصرة، على  رسم سياساتٍ أو اتخاذ قراراتٍ ومواقف تنعكس سلباً وربماً كارثياً في أحيان كثيرة على مصائر بلدانٍ وأممٍ وأفراد. وليس المقصود بالقراءات المغلوطة القراءة الخلدونية، مع أن لها بعض آثار قد تكون إيجابية إيضاً.

ومن ذلك على سبيل المثال ما قرأته قبل أيام حول كتاب صار الأكثر مبيعاً، بسبب خطأ إملائي بحرفٍ واحد، فبدلاً من العنوان الأصلي "كيف تغيّر حياتك"(How to Change your Life? ) أصبح "كيف تغير زوجتك" (How to Change your Wife?)..! ، وأذكر مما يروى عن الأخطاء الفادحة في الصحافة ، نشر نعي في حقل الاجتماعيات لشخصية  مرموقة، وقد ذيّل مدير التحرير النعي بملاحظة لمسؤول الاجتماعيات" إن وُجد له مكان". وكانت المفاجأة المحرجة في اليوم التالي، إذ ظهر في خاتمة الخبر :"وأدخله فسيح جناته إن وجد له مكان " !

ومن أخطائي المبكرة، ما صار لازمة يشتمني بها شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري كلما اعتقد أنني أغيظه. ويعود الخطأ الى ارتباكي وأنا ألتقي الجواهري اول مرة  في مقتبل عمري بعد  ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨بحضور  شخصياتٍ سياسية وثقافية بارزة . كانوا يتبادلون الحديث وأنا منصت، وليتني بقيت صامتاً. لم أنتبه إلا وأنا أعلّق على كلامٍ قيل بقولي "النتيجة ستكون وبيخة أستاذ ..! " . وظلت هذه لازمة الجواهري يطاردني بها  ، كلما حانت له فرصة وأحس بإغاظةٍ مني.

يعتقد البعض، وهو يتابع ما يجري من حراك شعبي في العراق ومن تجمعاتٍ واعتصاماتٍ واحتلال وزارات، إنما هي إسقاطاتٌ تاريخية تُذكّر بأحداث مثيلة في تاريخ أممٍ أخرى، وقد تتشابه  من بعض الأوجه وتذكّر بثورة "الحرافيش" العظيمة، فيما سُجّل في التاريخ بـ "كومونة باريس" . ولا يتوقف التطرف في الاسترجاعات التاريخية ومقاربتها قسراً على ظروفٍ مغايرة، بل وتوظيفها لخدمة قناعاتٍ معزولة عن الواقع، معلّقة في فضاءاتٍ نظرية "رماديةٍ" مجردة .

وهذه الممارسة في إسقاط " النظرية" على الواقع الحي وليس العكس، وذلك بضرورة الاسترشاد بالنظرية في قراءة الواقع وتحليل ظواهره، واعتماد نتائجها لرسم برامج وتوجهاتٍ للعمل وتغيير الاحوال والمجتمعات،  ليست بجديدةٍ في الحياة السياسية قدر تعلق الأمر بتأطير  نشاط الاحزاب والحركات وصياغة ستراتيجياتها وتكتيكاتها. وكَمْ  ستكون النتائج "وخيمة" إذا ما جرى الاعتماد، في غير قليلٍ من الأحيان، على مصادر نظرية مترجمة تشكو الضعف والهنات في نحت المصطلحات والمفاهيم والاستنتاجات، خصوصاً اذا أخذنا بالاعتبار أن القيادات والكوادر السياسية ،و" الكتاب المُنظّرين" عندنا لا يجيدون لغة غير لغة الضاد. كذلك إذا لم يأخذ الاسترشاد بالمبادئ النظرية ما تغير في المجتمع، وما تم اكتشافه في العلوم،  وما اغتنت به المعارف الإنسانية من قيمٍ جديدة. وكَمْ  هو جديرٌ بكل واحدٍ منا، في أي موقعٍ فكري أو سياسي كان  أن يحفظ في ذاكرته وهو يقرأ الظواهر التي تحيط به في المجتمع والطبيعة، ويجتهد لمقاربتها نظرياً  " النظرية رمادية اللون، يا صاحبي ،  أما شجرة الحياة فهي خضراء دائماً .."

كان البعض من قادتنا ، يحمل تحت أبطه كتاباً لماركس أو أنجلس أو لينين، وهو يحضر الاجتماعات " النوعية" لرسم سياسة أو  صياغة مفهومٍ أو تحديد موقفٍ في لحظة تحول. ولم يكن خارج المألوف، أن يكون قد خط بالأسود تحت فقراتٍ كاملة يُسقِطها على ما يُراد تبنيه في واقعٍ متغيرٍ شديد الاختلاف. وأذكر حالة خطيرة من هذه الحالات، عكست سذاجة في المقاربة التاريخية والفهم النظري. وكان البحث يدور حول طبيعة النظام الدكتاتوري الاستبدادي، والرأي السائد آنذاك يدفع باتجاه تبني الكفاح المسلح واعتماد حركة الأنصار شكلاً عملياً له   ولم يكن إقرار النهج السياسي بحاجة الى " تعميقٍ نظري"، لأن النظام البعثي بما كان عليه من دموية واستبدادٍ وارتكاباتٍ تكفي للإدانة والإسقاط بكل الوسائل، ولم تكن الوسائل السياسية السلمية متاحة بحدودها الدنيا. وإذا بإسقاطٍ نظري يقتحم النقاش ليؤكد أن النظام البعثي " فاشي" .! والنظام في واقع الحال كان أبشع من ذلك، لكن المقاربة النظرية بالفاشية كان يفترض توصيفاً نظرياً مُعْتَمَداً  أممياً، ولم يكن ذلك التوصيف حاضراً في المشهد العراقي. وقد يقال ما الضير في اعتماد التحليل " النظري" على علّاته؟ . كان يترتب على تبني" المفهوم" تأكيد مقاربته نظرياً، أي أن يتطابق مع ما كتبه  ديمتروف في توصيف الفاشية، وأن تستند السياسة الجديدة "الكفاح المسلح"  على حيثياتها، مع أن الاستنتاج بأن النظام دكتاتورياً ومستبداً، كان كافياً وأزيَد  . أما اذا سقط التحليل النظري " الفاشي" في مقاربته " أممياً " مع مفهوم ديمتروف لها ، فكان على الحزب أن يعيد النظر في سياسته ، أو أنه كان سيقع تحت ضغطٍ مزدوج، من القوى الضاغطة داخلياً، والقوى الأممية خارجياً لتخطئة السياسة الجديدة .

نحن الآن في مواجهة مثل هذه المقاربات النظرية، فالنظام السياسي " الطائفي" بمنظومته وآلياته ومفاهيمه صارت فاقدة الأهلية، باعتراف زعاماتها وعرّابيها، وإصلاح النظام وتغييره باتا ضروريين، كتمهيدٍ لتجاوزه باعتماد منظومة كاملة من التدابير والتشريعات، وتبني قواعد دستورية لإجراء تغييراتٍ في بُنى الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وهيكلياتها، وباعتماد ما يمكن من منصاتٍ سياسية وقانونية وضغطٍ شعبي للإطاحة برؤوس الفساد وتصفية مراكز حمايتها .

ويأتي في أساس التوجه للإصلاح الجذري  خلق مناخٍ بَنّاء للتحول الى الدولة المدنية الديمقراطية التعددية على أن تكون مرجعيتها الإرادة الوطنية لا غيرها من المرجعيات الدينية او السياسية الفردانية  من داخل النظام السياسي الفاشل  أو على تخومه . وليس ممكناً تأمين ذلك، دون إقرار قانون " ديمقراطي" للأحزاب، وبمعزلٍ عن مفوضية انتخابات مستقلة، منتخبة خارج أطر المحاصصة، باعتماد وسائل ومبادئ وتجارب الأمم المتحدة وتحت إشرافها المباشر  .

وليكون ذلك ممكناً ،  لابدّ من إزاحة سلاح الميليشيات والتنظيمات المسلحة وهيمنتها على الشارع، وإشهارها سلاح التهديد والوعيد ضد كل مخالفٍ أو مناكفٍ أو مستنكف عن خيارٍ لا يتساوق مع الديمقراطية وقيم الدولة المدنية.  

  كتب بتأريخ :  الخميس 21-04-2016     عدد القراء :  3213       عدد التعليقات : 0