الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عودة الطفل العراقي إلى مرحلة الالتقاط

لا أود هنا أيها القارئ الكريم أن أُدرج إحصائيات وضعتها المنظمات الدولية أو الحكومية عن عدد الأطفال الجوعى أو المتسربين من مدارسهم أو كم يموت منهم سنوياً في العراق، لكنني أود أن أعرض صوراً تتكلم عن أوضاع الطفولة العراقية، حيث تهرول أسراب طويلة من الأطفال إلى ساحات العمل أو إلى ساحة الباعة المتجولين أو ساحات الشواذ والتجنيد الإرهابي .

تقول هند : أنا طفلة في الثالثة عشر ، زوجني أبي إلى رجل بالخمسين ولديه زوجتان ، واشترط الرجل على أبي  أن يبقى الزواج سراً ولفترة شهرين ، وأنا لا أعلم الآن هل أنا متزوجة أم لا .

ويقول وليد : أخرجتني أُمي من المدرسة لكي أعمل في ورشة للنجارة . أعود بعد السادسة إلى البيت مع بعض الطعام لأمي وإخوتي،  لا يسترنا البيت من الحر أو البرد لكننا لا زلنا أحياء فيه والحمد لله .

قالت سمر : أنا طفلة في الثانية عشرة أنهض مبكراً في حوالي الساعة السادسة صباحاً إلى مدافن المزابل مع بعض الأكياس الكبيرة ، ويخرج معي الكثير من الأطفال لالتقاط بعض العلب أو بعض الأدوات الصالحة للاستعمال ، وبعض الأوراق وعلب الكارتون والكبريت وعلب المشروبات الغازية والأطعمة وهي مطلوبة للبيع ، وأكثر ما يسرني هو أن أجد بعض أعقاب السجائر لأبي وبعض أعقاب الصمون . قد نتعارك قليلاً أنا والآخرين لكننا نعود إلي بيوتنا متصادقين .

رفع حميد عينيه المتسمرتين على الأرض ، ثم جمع شجاعته ونظر في وجهي وقال : أنا طفل في الثانية عشرة أجلس كل يوم منذ الصباح وحتى المساء في مقهى للشواذ لا أحمل في جيبي طعاماً سوى بعض السجائر ، أعمل لوحدي وأحياناً أحتاج إلى مساعدة السمسار الذي يأخذ معظم أجري ، تعلم أمي بالأمر لكنها تقول هذا أفضل من أن أقدم أخواتك للسمسار ، ضحك الجميع ولم يُعقب أحد منهم .

قال زاهر أنا أعمل دليلاً لأحد اللصوص الكبار ، أُراقب البيوت الفارغة وبيوت الأغنياء ، ويتطلب مني هذا وقتاً طويلاً وبعض أجور النقل والتي يتكفل بها العم جواد والذي أعتقد أن هذا هو ليس اسمه الحقيقي، وإذا مُسكت أو أُلقي القبض عليّ فهو من يخرجني بمساعدة بعض أصدقائه من ضباط الشرطة .

خرج صوت هادئ ومُتعب وكأنه بكاء متقطع من طفلة قالت أنها تُدعى جميلة وهي في الحادية عشرة ، قالت : أنا أعمل في متجر للخياطة تملكه امرأة هي أصلاً مديرة مدرسة للبنات ، وقد التقطتني من بين الطالبات لشطارتي في ( درس الفنية ) وقد علمتني مهنة الخياطة لكنها تقوم بضربي كلما أخطأت في وضع الأزرار وكلما انكسرت إبرة الماكنة ، لكني شاكرة لها لأنها تساعدني بدفع مصروف البيت بالأجرة التي تعطيني إياها.

أخيراً قال نور الدين : أنا في العاشرة ويدعونني نور ، أعمل مع أبي في فتح ( بالوعات البيوت ) وأحياناً المجاري العامة ، يستخدمونني لصغر حجمي لذا يربطونني بحبل سميك وينزلونني إلى البالوعة لإخراج ما بها من أوساخ . يعلم أبي خطورة الأمر ولكن لا مصدر آخر للعيش لدينا . قبل شهر انزلق أحد أصدقائي في داخل البالوعة وانحل الحبل من حول وسطه، ولم يستطيعوا إخراجه وابتلعته البالوعة ، حزنت كثيراً وأرعبني الأمر لكني لا زلت أعمل في نفس المهنة مع أبي .

هذه كانت باقة ورد طفولية خشنة تتكون من أطفال عراقيين يعيشون في القرن الحادي والعشرين وفي زمن يدرس فيه الإنسان تربة المريخ والزهرة ، وفي بلد يبلغ واحدا من ثلاث أكبر احتياطي النفط في العالم . لقد انطفأ البريق من عيون هؤلاء الأطفال وأُسكتت مشاعرهم ، وتعودوا بأن لا يتألموا وأن لا يصرخوا ، بل كان المهم أن يكون لديهم صحن مليء بالطعام يتناولونه بعد طول عناء . يخرجون صباحاً وهم لا يعلمون ما ينتظرهم خلف الأبواب؛ ولا بد أن تكون لديهم أظافر طويلة لكي يحفروا عميقاً في الأرض علهم يجدون الماء الذي يرويهم . يحكم هذه المجتمعات الطفولية قانون الغاب، والذي يحكم بأن تصطاد أو تُصطاد .

ملاحظة : اكتشفت أن جميع هؤلاء الأطفال يضعون تحت وسائدهم صوراً لبيوت نظيفة فيها الكثير من الطعام واللُعب والمحبة والطمأنينة ، تتوهج فيها السعادة الطفولية  وتبتسم أفواههم وتظهر فيها أسناناً لؤلؤية براقة ناقصة أحياناً لكنها تنبت في مكانها الصحيح بلا اعوجاج أو نخر .

  كتب بتأريخ :  الجمعة 03-06-2016     عدد القراء :  3042       عدد التعليقات : 0