الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الهوية العراقية.. منجاة الجميع

بعد تصريح رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، بمناسبة مئوية «سايكس-بيكو»، لإنهاء الشراكة مع بقية العراقيين بدولة كردية، سمعنا بتصريح نجله مسرور البارزاني، مسؤول الأمن، بضرورة تقسيم العراق، بعد دحر «داعش»، إلى ثلاث دول: كردية وسنية وشيعية، مع علمنا أن تصريح الأب ارتبط بسايكس-بيكو، وكان تنفيذها مجرد إشاعة.

كذلك ارتبط تصريح البارزاني الابن بترقب نهاية «داعش»، وتلك لاصلة لها بوحدة أو تجزئة العراق، ولا تمثل سُنته، مثلما لا تمثل الجماعات السلفية الكُردية، كـ«أنصار الإسلام»، الكُردَ، ولا الميليشيات تمثل شيعة العراق.. فكلها جماعات سياسية أو مسلحة لها أجندتها. لكن على ما يبدو فإن تجديد الدعوة إلى الانفصال، شكلاً ومضموناً، بحاجة إلى ذريعة، وحسب هذه الذريعة فإنه على كل بلد ابتُلي بـ«داعش» أن يُقسَّم!

لا نرى العراق كياناً من ورق، نقش بريشة بريطانية، فلو كان كذلك ما صبرت بريطانيا ولا أميركا، كل هذا الزمن على وحدته. لم يكن الكُرد ولا السنة ولا الشيعة ولا بقية الأقوام بغرباء على هذه البقعة، صحيح أنه مرَّ على زعامتها أقوام وأقوام، وانفصل هذا الزعيم أو ذاك بجزء منه، لكن لم تؤسس وترسخ ثقافة التجزئة عليه، حكمه أقوام كثر والكُرد بينهم (دولة ذي الفقار ببغداد).

لم يبخل العراق على ساكنيه، فالخير وفير، أما السياسة فأمرها آخر، ولم تكن ألاعيبها جارية على العراق وحده إنما العالم كافة خضع لأهوائها، وما أصاب الكُردي أصاب غيره. فلماذا هذا الإسراع إلى شؤم التقسيم؟ ليس القلق من التقسيم، أو قيام دولة كُردية، طمعاً بخير كردستان، فنفط البصرة كان يُصرف على أربيل بالمقدار الذي يُصرف على البصرة نفسها، إنما سبب آخر يجعل بقية العراقيين يتشاءمون من تلك الدعوة، إنه تاريخ المواطنة.

جاء في تقرير أسقف بغداد عمانوئيل (ت 1773) إلى البابوية (1742)، ما يؤكد أن العراق عُرف قديماً بأبنائه كافة، ومنهم الكُرد: «ولاية خاضعة للسلطنة العثمانية. وهي واسعة جداً، إذ تشمل مناطق عديدة هي كلدة وما بين النهرين، وقسماً من البادية العربية، وتمتد حدودها إلى بلاد فارس وإلى ديار بكر شمالاً، وتشمل منطقة مادي شرقاً، وهي المعروفة بكردستان» (بين النهرين، العدد 43). بمعنى أن العراق، كما هو الآن، وكردستان منه. فأين احتلال العراق الحديث للمنطقة الكردية، كي تطلب التحرر منه؟

ألَّف رسول الكركوكلي (ت 1825) كتاباً بتوجيه من وزير العراق داود باشا (ت 1831) أرَّخ فيه للشراكة بين العراقيين: «أثمرت المساعي التي بذلها الأهلون والعشائر والرؤساء، لاسيما أمراء الأكراد، الذين قدموا العرائض والالتماسات إلى المقامات العليا بيد ساعٍ خاص إلى الأستانة، وصدور الفرمان البادشاهي بتعيين داود باشا والياً على بغداد والبصرة وشهرزور مع رتبة وزير، فكان لتعيينه رنة واستحسان في سائر أنحاء العراق» (الكركوكلي، دوحة الوزراء). فهل كانت تلك الشراكة خالية من المواطنة؟!

كذلك يؤكد المؤلف نفسه: «العراق بما فيه من طوائف متنافرة وعشائر متخاصمة، كالأكراد والعرب» (نفسه). أما إبراهيم صبغة الله (ت 1882)، فيكفينا من كتابه، المصنف (1869): «أما عشائر الأكراد من أهل العراق فهم كثيرون»، وعدَّ الزيباريين بالاسم (المجد في أحوال بغداد والبصرة ونجد).

لا أنتهي إذا أطلقتُ للمؤكِدات بأن العراق بأقوامه أقدم من «سايكس- بيكو»، و«داعش»، ولا أريد حرمان الحزب الديمقراطي الكردستاني من دولته المنتظرة، بقدر ما أفهم جيداً أن الهوية العراقية هي الخيمة التي يستظل بظلها الجميع، وأعمدتها راسخة في أعماق هذه الأرض.

لابد من تذكير «كاكا مسرور» بالآتي: ماذا يُصنع بالمناطق المختلطة: كركوك والموصل وبغداد وديالى والبصرة والحلة؟ أتجري تصفيات عرقية ومذهبية كي يقبل البلد القسمة على ثلاثة؟! وهل ستتفق السليمانية مع الدعوة، ونعلم أنه لولا ظِلُّ العراق لعادت الحرب الضروس في كردستان مثلما نشبت في التسعينيات؟ وهل ستوافق دهوك على تمزيق العراق لو تُركت لها الحرية، وهي محافظة الإقليم الثالثة؟ وماذا عن التركمان والكُرد الفيليين، والشَّبك، مع أي قسم سيقطنون؟ وماذا عن سهل نينوى وتاريخه وحاضره السرياني؟!

نعم، هناك غربيون لا ينقطعون عن المنابر التي تُعقد بأربيل، لكنهم مجرد بياعي كلام، لم يتصفح أحدهم تاريخ الشراكة على هذه الأرض، ولم يبتل بعاطفة الهوية العراقية، لذلك فذبحها بسكين التقسيم سهل عليه، ولا هم الأقرب لأشقائنا الكُرد مثل قُربنا لهم، والوديان تشهد للدماء التي سالت لأجل شعار «الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان».

افعلوا ما تستطيعون، وأنتم قادرون في لحظات بؤس بغداد، لكن لا تنكروا حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا، واعلموا أن الهوية العراقية منجى الجميع، من تقسيم لا يترك لأهل العراق ولا المنطقة غصناً أخضر.

  كتب بتأريخ :  السبت 25-06-2016     عدد القراء :  3597       عدد التعليقات : 0