الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الجاحظ.. ورثته أهل الأدب لا سالبو الأقوات

كتب العلامة السَّيد حسين هادي الصَّدر مقالةً تحت عنوان "إلى ورثة الجاحظ فقط"، في العدد 3673 مِن  صحيفة المدى الغراء، والمؤرخ في (16 حزيران 2016)، جاء في مستهلها: "قُبح الجاحظ يضرب به المثل. غير أنَّ بعض الروايات في كتب الأدب تُصوِّرُهُ على انه لم يكن يعترف بهذا القبح على الإطلاق، ومعظمُ السَّلطويين في العراق ورثوا هذه الحالة من الجاحظ فما زالوا – رغم كل الاخفاقات والفشل – يعتبرون أنفسهم من الرجال الذين لابُدَّ ان نباهي بهم الأمم والشعوب"!

مِن المؤكد أن السَّيد الصَّدر  لم يقصد تقديم الجاحظ قريناً لمَن يفعلون القبيح بثروات ومقدرات العراق والعراقيين، ويبالغون بجهلهم، بينما في المحافل يتحدثون عن النُّبل والثَّقافة والفكر، والتقوى وتحسبهم رهباناً في صوامع وبيع، أو معتكفين تديناً وورعاً. أقول هذا لأنني أعلم جيداً أن السَّيد حسين هادي الصَّدر أديباً شاعراً فصيحاً مفوهاً، ونثره مِن فضل الأولين علينا وعليه، ومِن بينهم الجاحظ(ت255هـ). واستغلها مناسبة للتذكير بهذا الرَّجل، أقصد كاتب المقالة، وإن نسينا فلا ننسى أنه كان مِن القلائل جداً الذين شجبوا الحصار على العِراق بشجاعة، في أيام المعارضة، وفي محافل مَن بالغوا في التَّشجيع على الحصار.

كانت أحزاب وشخصيات تُطبل له، وكأن حسين الصَّدر قرأ ما آلت إليه الأحوال، وما تركه الحصار على الثَّقافة والعقل العراقي، كي يخضع الشَّباب بسهولة ويُسر لثقافة المتردية والنَّطيحة، وها هو الرَّجل لم يدخل حزباً ولا يقود ميليشيا. كانت صحيفته "المنبر"، التي استفدتُ منها أيما فائدة في كتابي "مئة عام مِن الإسلام السياسي"، بما يخص مذكرات الصحفي النَّجفي محمد حسن الصُّوري(ت 1998) وغيرها، فقد اضاءت لي زاوية مِن مشاكسات (1959) الحزبية مع التَّيار الدِّيني.

كذلك نشرت صحيفة "المنبر"، وبقلم الصَّدر نفسه، عن أزلام صاروا مِن كبار سياسيي الدَّولة، ولم يجمعوا في كلامهم لا مفردات ولامقاصد، مِن التَّيار الإسلامي السِّياسي، وكانوا يخشونِ صولات الصَّدر ضدهم في صحيفته. ظل الرَّجل مثلما كان محتفظاً بنقاوة عمامته وسريرته، لم يدخل حزباً ولا تكتلاً، وإن دخل في الأيام الأولى فكان دخولاً بعيداً عن الطائفية بشكل مِن الأشكال، ثم انسحب بهدوء، ولم يحمل راية ولم يتربع على قيادة باسم الله أو الإمام، سوى ما يحبّره يراعه، على صفحات "المدى" ناقداً ومنبهاً وناصحاً، لكن مَن يقرأ ومَن يسمع.

على ما يبدو أن الجاحظ(ت255هـ)، والذي بلغ من العمر عتيا(نحو 96عاماً)، نُقل عنه أنه لم يخف عدم جماله(صعب عليَّ استخدام مفردة القبح أو البشاعة على هذا البصري العظيم)، فمما تنقله كتب الأدب عنه ما حدث بينه وبين امرأة بصرية: "أتتني وأنا على باب داري، فقالت لي إليك حاجة، وأريد أن تمشي معي، فقمتُ معها، إلى أن أتت بيّ إلى صائغ يهودي، فقالت له: مثل هذا، وانصرفت! فسألتُ الصائغ عن قولها، فقال: إنها أتت إليّ بفصّ، وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان، فقلتُ ياستي ما رأيتُ الشيطان! فأتت بك"(ابن نباتة، سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون).

كذلك اعترف بعدم جماله وقالها، بصراحة: "ذُكرت لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني"(المسعودي، مروج الذَّهب ومعادن الجوهر).

لكن ابن خلِّكان يجعل من من عدم الجمال أو (ذمامة الصُّورة)، التي ابتلى بها الجاحظ، فضيلة من الفضائل: "كان من فضائله تشوه الخلق"(ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان). اعتبر ذلك مدحاً، وعلى ما يبدو كان مقصد ابن خِلِّكان محاسن إبداع المعرفة لدى الجاحظ، والتي صار يدل الآن عليها معنى اسم الجاحظ.

فلا أحد يتذكر الذَّمامة بقدر ما إذا حضر اسمه حضر الأدب. أما مَن قال عن الجاحظ: "لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً/ما كان إلا دون قبح الجاحظ"(البغدادي، الفرق بين الفرق)، فهذا يدخل ضمن النِّزاع بين الفرق الكلامية، والتغابث ضد المعتزلة، وكان الجاحظ أحدهم، فيُعد الجاحظ مبرزاً فيها. كان زميلاً لأبي نواس(ت198هـ) في الدرس عند فيلسوف المعتزلة إبراهيم بن سيَّار النَّظام(بين 225-235هـ)، وخرج أبو نواس على استاذه إلى موهبة بل عبقرية الشَّعر، بينما ظل عمرو بن بحر الجاحظ مواظباً، فصار له باع في علم الكلام بعد النثر المسبوك سبكاً.

يكتب المسعودي(ت346هـ)، واصفاً مؤلفات الجاحظ، وعصره ليس بالبعيد عن عصره: إن كُتبَه "تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصيف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع، خرج من جدّ إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة"(مروج الذَّهب ومعادن الجوهر).  كذلك لثابت بن قرِّة الصَّابئي(ت 288هـ)، الطَّبيب والفيلسوف، رأي بديع في عصره وعصرنا الجاحظ: "حبيب القلوب، ومراح الأرواح، شيخ الأدب ولسان العرب، كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة"(الحموي، معجم الأدباء).

هذا غيض من فيض عن ابن بحر الجاحظ، البصري الولادة والنشأة، ولي حجتي عندما جعلته ضمن كتابي "أثر السُّود في الحضارة الإسلامية"(الرِّياض، مكتبة الملك عبد العزيز 2015)، وكان كتابه "البيان والتبيين" أحد الدَّواوين الأربعة التي ذكرها ابن خلدون(ت 808هـ) في مقدمته، بأنها أساس فن التَّعليم والكتابة، قال: "سمعنا من شيوخنا في مجالس التَّعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتَّبيين للجاحظ، وكتاب النَّوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة"(المقدمة).

أتعلمون أن هؤلاء الأربعة كلهم عراقيو التعليم والنشأة أيضاً، تعلموا في مدارس البصرة وبغداد، لوجودهم ووجود المئات غيرهم قال الشَّاعر أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب، معبراً عن عن عظمة هذه البلاد، التي ذلها مَن وصفهم السَّيد حسين الصَّدر بـ"ورثة الجاحظ"، إذلال لا مثيل له في التَّاريخ، وهم ليسوا كذلك. إنها شهادة من غير العراقيين، بل من شاعر "حذا في قرض الشعر حذو أهل العراق"(الثَّعالبي، يتيمة الدَّهر):        

لا تعجبنْ مِــــنْ عراقـــيٍّ رأيتَ لـــــه

بحراً من العلمِ أو كنزاً من الأدبِ

و اعجـــبْ لمَــــــنْ  ببــلاد الجهل  منشئـــوهُ

إن كان يفرقُ بين الرأس والذَّنــــبِ

أقف عند هذا الحد، فلو سمحت لقلمي في ما ينقشه عن الجاحظ ما توقف، وكنت أنتظر من السيد الصَّدر أن يختتم مقالته، بأن ذمامة الجاحظ سترها جمال قلمه ورقة أسلوبه وجودة رأيه، وسلطانه في عالم الأدب، ما تركه من كتب، سماها في مقدمة كتابه "الحيوان" بالمصاحف"، لم يخل منها بيت حاكم أو محكوم، ملك أو مملوك، أدبه وحد النَّاس فيقرأه أهل الأديان والمذاهب كافة، فمَن هؤلاء الذين بالغوا في جهلهم وآثروا أنفسهم، كي يسمَّون ورثة الجاحظ؟!

  كتب بتأريخ :  الإثنين 04-07-2016     عدد القراء :  3369       عدد التعليقات : 0